في حضرة إسراء جعابيص

عشتُ مع إسراء في سجن هشارون شهراً تقريباً في نفس الغرفة..
بعد شهر من العزل و التحقيق نقلت من مركز تحقيق المسكوبية في القدس إلى سجن هشارون قرب يافا ،فتحت السجانة باب الغرفة رقم 17 في القسم، و إذا بي وجهاً لوجه أمام 6 أسيرات،بعد شهر لم أرَ فيه سوى وجوه المحققين!
كنت ظامئة لرؤية الناس و الحديث في أي أمر مهما كان بسيطاً..
بدأت بالتسليم عليهن واحدة في إثر الأخرى حتى وصلت إلى إسراء!
مددت يدي مُصافحةً،قالت لي شاويش الغرفة أم موسى “هذي إسراء جعابيص”
كانت تجلس على سريرها،أمامها طاولة صغيرة تتناثر عليها حبات الخزر الملون،و مجموعة أشغال يدوية ..
و لأول وهلة لم يخطر لي أن هذه المشغولات هي ما أنتجته إسراء بيديها مبتورة الأصابع!
ليس فقط أنه لم يخطر لي،بل استبعدت ذلك إلى حد الاستحالة
اليدان اللتان ضجت بصورهما وسائل التواصل الاجتماعي اليوم ،كانتا جزءاً حاضراً يومياً في حياتي طيلة شهر كامل،و لهذا السبب تحديداً تبدو الكتابة صعبة،حدثاً ثقيلاً و ألماً إنسانياً تعجز عنه اللغة مهما بدت متسعة،بعد نهار كامل ضج فيه الناس بالحديث عن إسراء،تجرأت أخيراً أن أسمع كلماتها في المحكمة ..
شعرت أن جبروتاً طاغياً يطبق قضبته على قلبي فيسحقه سحقاً ..
أو لربما ذبحٌ بنصل سكينٍ بالٍ،،فلا حياة و لا موت!
سريري كان فوق سرير إسراء،أمضي نهاري و أنا أدفن رأسي في الكتب هرباً من التفكير المستنزف فيما ينتظرني،و نهار إسراء يمضي و هي تعد الهدايا لأسرتها ..
عرفت أسماء العائلة و الأصدقاء و الأحبة من المشغولات التي أعدتها لهم،مكتوب على كل منها اسم صاحبه تطريزا.. و من يعرف و لو قليلاً عن التطريز يدرك مدى اعتماده الدقيق على حركة الأصابع..
كنتُ استرق النظر لها بين الحين و الآخر و أفكر.. كيف تستطيع التحكم بالإبرة؟ و يدهمني خيال زرعته في رأسي كتب علم التشريح أنها قد تخدش جلدها الرقيق للغاية بسبب الحروق فينزف..
أنظر لها لاطمئن أن هذا القلق مجرد وسواس ..
أجدها منغمسة للغاية فيما تعمل بكل هدوء و حب ،فأعود أقرأ ..
تناديني بين الحين و الآخر “أبوشرار،دخلي الخيط في الإبرة”
أتناوله منها بحركة طفولية و أنا أطل عليها من سريري الذي فوق سريرها و أنزلها بذات الحركة و أنا لا أنتصر على الخيال الشرير الذي كان يوهمني أنها قد تخدش جلدها بالإبرة!
لكن ذلك لم يحصل طيلة شهر كامل، و لا لمرة واحدة!
كنت أراقبها و هي تقوم بشك الخزر في الخيوط و خياطته إطاراً لأسماء أفراد عائلتها و أنا في غاية الدهشة من دقتها رغم أن أصابعها مبتورة،مرة فتحت لي صندوقها الذي تخبئ فيه كل ما تجهزه،ذُهلت!
أيُّ قوَّةٍ يا الله،أيُّ قوة!
كان الأمل و الحب في قلبها أقوى من كل شيء،و كان الألم أيضاً،ذلك الذي لا تحكيه و لا تظهره لأحد،و تحتمل دون إظهاره أن تعجز عن قضاء بعض ما تحتاجه من أمور..
كانت و لا زالت تكره الشفقة،و أن ينظر إليها أنها ضعيفة أو غير قادرة..
أتساءل،هل هذا ما يفعله الألم العميق الذي يصيبنا و نحن نخوض معركة الحياة؟
جمعنا قرب و ود رقيق،و تفاصيل يومية كثيرة يجب أن أكتبها،ذلك القرب الذي كنت أحس فيه إسراء أختاً كبرى،،
تتحدث عن معتصم ابنها،و صهيب شقيقها،و تنتظر كل اثنين في الحادية عشرة صباحاً برنامج الأسرى عبر “صوت فلسطين،إحدى الإذاعات المحلية” لتستمع لعائلتها ..
كان صهيب دائماً يتصل في تلك الفترة و يحكي لها ” لو كل الدنيا تركتك يا إسراء أنا ما بتركك،أنت أختي ..أنت الغالية علينا كلنا يا أم المعتصم”
أنظر إليها بصمت،تسري في جسدي قشعريرة مطلقة،و تفيض عيناي دمعاً أرد انهماره!
تبقى تكرر ما يحكيه صهيب في المكالمة،ثم اتصال معتصم-ابنها الوحيد الذي و حتى تاريخ خروجي من السجن قبل عام تقريبا لم تلتقِ به- و شقيقاتها ..
و الحقيقة أن إسراء لم تكن تستمع للبرنامج و هي جالسة ..
كانت تتناول الراديو ، تعلقه بضوء الغرفة”النيون” حتى يتحسن بث الإذاعة ، و تبقى واقفة على قدميها حتى تستمع لعائلتها ..
و أنا أسمع معها،و أفكر ..
يتلوى قلبي ألماً ، و لا أنطق،،
كانت دائماً تتساءل عن شكل لقائها بمعتصم,,
لهذا النص اكتمال قريب،،و حديث طويل،طويل،،
الله يرعاكِ يا أم المعتصم <3
11.1.2018
سلام أبوشرار
.