نهرٌ بضفتين

نهرٌ بضفتين
(إِلى المُستحيلِ.. نَهْـرٌ يَـزحَـفُ وبِجانِـبَيهِ ضِفتين)
-قصة قصيرة-
غنام غنام
تشرقُ شمسُ يومٍ جديد كالعادة، وللنهوضِ من الفِـراش قِصةٌ أُخرى، فَـنومي كان مُواراةً لجسدٍ يَلْـتَـفُ حولَ نَـفسهِ كمن يَطوي رِداءً مَــلَّ استخـدامَه، وكثيراً أتظاهرُ بالنَّوم، فلا التـعب يَـشدُني إلى كَـنَفهِ ليطمئِنَنِي، وفي استيقاظِ دماغي صوتٌ مُشوَّشٌ لأحلامٍ تـشبهُ جَـرْشَ إِزالَةِ الصَّدأ عن قِطعةٍ مَعدِنيَّـةٍ دُفِنَتْ فِي التراب دَهْـراً من الزَّمن، وعندما أَقْــتَــنِعُ أَنَّـني نَهضتُ، تَـتجوَّلُ ذاكرتي في أنحاء الغرفة تفتشُ عَنْ تـلك الأَحلامِ الجريئَة، التي تُـخرِجُني مِن عالمِ الضَّجرِ إلى دُنيا الأَملِ، وأَتَملمَلُ في فِراشِي مِثْـل بُوصَلـةٍ تدورُ إبرتُها المرتكزة على محورِها؛ باحِثـةً عنِ الاتجاهِ الجنوبي يومياً، وإلى بابِ غُـرفـتي تُـشير، ولأُمي بالتَّحديد، وأَنَّني مُستيقظٌ وما زِلْتُ في مَكاني.
الشعورُ بالغضبِ مثلُ الشُّعورِ بالنُّعاس، أَو أَلَمِ الاستيقاظ، أو جوْلَةِ الحَــرَجِ نحو المِرحاضِ أو مراسِم الاستحمامِ، وحتى طُقوس التَّعب في تـناوُل الطعام، وشُـرْبِ كأسٍ من الشاي الفاتِر، أُعاني من عُـقدةِ المكان، ولا يَـهُـمني الزمانُ ولا الأحداثُ؛ فالمُهدِئات تقومُ بدورها على أَكْملِ وَجه، فأَنا لا أَملِكُ الرَّفضَ ولا أَعرفـهُ، فَحياتي في حُـفـرةٍ مُكعَّـبَةِ الشَّكلِ يُسمونَها غُـرفتي، كنت أتمنى أنْ تصطدمَ قَـدمي في طرفِ السرير، أو أنْ أُغلقَ البابَ على أُصبعي.
والإحساسُ المفزعُ بالرقودِ في الظلام، وأن تكونَ مكوّماً في زاويةِ الغرفة كأغطية تنتظرُ استخدامها، وكم أتمنى أنْ أتمَلْملَ في فِـراشي؛ لأطرد تلك البعوضَةَ الحمقاءَ التي تَـتغذّى على دمي، فأتركُها حتى تكتفيَ مِنّي، فهي والزمان سواء.
- “لِـنَـكُن مَـرِحيـنَ مهما حَـدث”
تَـقولُها أُمي لي دائماً، ومع أني لا أعرفُ معنى المرحِ الذي تَـقصدُه، وليس الأمرُ جَـديراً حتى بالمحاولةِ، ولكن طالما يُسعدها قول ذلك؛ أرسم لها ابتسامةً من طرفِ شَفَـتيَّ المُـقـشَّرة؛ لعلَّ فُـضولها ينتهي، فعيناها حَمراوانِ زائِغتانِ كحبتي فراولة، وتحيطُ بهما هالةٌ خـضراءَ مُسْوَدَّةٌ، وانحناءُ جَـفْـنَيها يُـنْـبِئُ بِكُلِّ شَيء.
قالـتَ لي:
- “إنَّه نَـوعٌ من الكُحلِ الأَخضر”
ولكنني أعلمُ أنها تختلق كل ذلك، وتُجمّلُ الكلام، وتختصر الزمان، فكثيرٌ ما تكذبُ عَـلَيَّ، وقد أَخبرتني مرّةً:
- ستبقى صغيراً وأرعاك، حيث أنَّ العـظماءَ مثلك لا يكبرون.
أعلمُ أنَّ التعبَ قد تجاوزَ عُمرها وأطرافَها، ووصلَ إلى عُيونِـها العسليّةِ الجميلة، وأشاهدُ دموعَها تفورُ فيهما بُـرْهَـةً من الزمنِ، فقد خُـيِّـلَـتْ لي فقاقيعُ زُجاجَـةِ مشروب غازيّ، ثم تَـتَـفرقُ على تجاعيدِ خديها، وتسيرُ في أَودِيَـتِـهما نُـزولاً.
لقد أصبحَ جَسدي مُفكَّكاً بأكملهِ مثل لعبة سقطت من يدِ طِفلٍ بعدَ جهودٍ طويلة في تَجميعها، وصِرْتُ لَـيِّــناً كَـلُعْبَةٍ قُماشيةٍ تُـرِكَـت في غسالةٍ تَـقاذَفَـتها الأشياءُ دونَ إِحساسٍ على الإطلاق، غير أنَّ عَـقليَ الذي فَـقدَ حِدَّتَــهُ يَـطفُو بعيداً كل مرَّةٍ عن جَسدي المُنهك، ومِقصَلَةُ القَدَرِ نَـفَّـذَتْ حُكمَها فيهِ مُبكراً، ويبحثُ عن نفوذٍ ما، ومعطل عن أي شعور بالتوقع.
أبقى صامتاً حتى تَمُرَّ تِلكَ اللحظاتُ الصباحيةُ الكئيبة؛ لأنَّني لا أستطيعُ الإفلاتَ من مكانيَ ولا الهرب، والصراخُ خَـفَـتَ صوتُـهُ، فمُذ كُـنتُ في المهدِ ما عَلَـيَّ سِوى أنْ انتظرَ قُرصَ الشَّمسِ حتى يتجاوزَ جسديَ قبل أنْ يُـجَفِّــفَهُ، فأُمسي كَعُرجُونٍ قديمٍ، وكم تمنيت أن أقفَ قُبالَةَ المرآةِ مثل أبي لأَحلِـقَ ذَقني.
أحاولُ أَحياناً أنْ أَسْتَـنْـجِدَ بيدي اليُـمنى رَغْـمَ ثِـقلها وتَـقوُّسِـها الهِلالي، وما تَـبَـقى فيها من حياةٍ، بأنْ تَـنْـقُـلَ الكأسَ البلاستيكيَّ إلى شفتَي، فهي تحاولُ الانفصالَ عن جسدي، وَتُـشْعِرُ عِـظامي أنها مُتمردةٌ عليها، فيجتاحُـني أَلَـمٌ يُـفتِّـتُ لَحمِي؛ لينتفضَ ويتمردَ رافِـضاً اختلالَ سُكونِهِ الطَّـويل، وتنجحُ مُـثابَـرتِي المُـتَـكرّرة رَغْـمَ سُـقوطِ الكأْسِ الذي يأبى أنْ يتحطمَ، فأتأملُ تَـدَحْـرُجَهُ وصوتَ ثباتِهِ، ورَغْـمَ فُـقـدانِـه ما فيه، إلا أنّه يعودُ ويمتلئُ مرَّة أُخرى، ولا يَـقْـنَطُ من النهوضِ.
سَمِعـتُ أبي مَـرَّةً يَـشكو لأُمي خَـدِران ذِراعِـهِ من اتكائِـهِ عليها طَويلاً، ولم أَعرف قَـطُّ مَعنى الخَدران، إلا أنَّـه جُـزءٌ مني ينتقلُ لعائِلتي؛ ليخبرَهُـم كيفَ حالي؟ كُـلَّما سأَلوني عنه.
لقد شعرتُ مِراراً بالشفقةِ على الذات، ومرارَتُها التي كانت تلمعُ في عيني، وتخنقُ صوتي المهموم، وأجفلُ كلما سمعتُ اسمي يذكرهُ أحدُهم.
عِندما مالَـتْ شَـمْسُ يومِ الجُمعةِ خَـلفَ جِـدارِ البيت، وهوُ أبعدُ ما أُشاهِدُه، وذلك ما يُسمونَهُ الغُروب، حينَ قادَنِي أخي الصغيرُ مُـهند إلى رَدْهَـةِ البيت، وأنا لا أُبالي، فمن يَـشْعُـرُ أنَّهُ لا يملكُ جَـسداً؛ لا يَهُـمُهُ أين ينقلُه الآخَرون، ولن يُـبالي بأيِّ شَـيء غير ذلك الشعورِ المُنْـتَـفِضِ بِـداخِلِـهِ بالتَّرقُـبِ، لأَتفاجأَ بِطاولتِـنا المُستديرَةِ وحولها أُمي وأَبي، وأُختي جنى، وَعِـدَّةَ شُموعٍ متراقِـصَةُ الضّوءِ وُضِعَتْ فَـوقَ كَـعكةٍ هُلاميَّةٍ، يُـشبِهُ لونُها التراب، وشَعرْتُ أنَّ الكلَّ يُـراقِـبُـني بِعناية لتمرَّ ذِكرى الفرحِ المصطنعةِ المُعتادةِ؛ لنحتفلَ بمراسيمِ حَـرْقِ الشموعِ، ولأنَّ أَنفاسِي لا تَـقوى على إِطفائِها، تَـقومُ جنى بالمُهمةِ، فقد أَكْـمَلْـتُ عامَ حُــزْنٍ آخرَ وَضَعْـتُهُ فوقَ تِسعةَ عَشَرَ عاماً مَرَّت، ولا أتذكرُ مِنها سوى رائِحة الشموعِ المحترقَةِ من أَجلي.
- كُـلُّ عامٍ وأنتَ بخيرٍ
كانت أُمي أوَّلَ من قالَـها، وأَعلمُ كم هـي صَعبةٌ تلك الجُملَةُ في قاموسِ عائِـلتـنا، وتَـتوالى التَّهانِي والقُبُلاتُ بعد ذلك من شِفاهِهمُ البارِدَة، إلا شَـفَتي جَنَى، فهُـما الوحيدتان الحارَّتان، فما زالَ أَثَـرُ الشموعِ فيهما، والهدايا المُغلَّـفَةُ بالورقِ اللامِعِ تُوضَعُ في حِجري، ويقومُ مهندُ بِـفَـتحِها لأشاهِـدَها، وأَتَـقبَّـلُ كُلَّ ذلكَ بِوداعَةٍ وسُرورٍ، فما زال في إِمكاني التفاعُل مَعَهُم، وأنْ يَـنْـتَـفِضَ بما تَبقى من جَسَدِه لِيُـبادِلَهُم الشُّكْـرَ.
وبعدَ دقائِقَ منْ فَـتْـحِ الهَدايا، وقد أخذَ مُهندُ إِحداها، وجنى كذلكَ فَعَلَتْ، وبَـقيـت واحدَةٌ حيَّـرتني بماهِيَّـتِها، كأَنَّها بلاطُ البيتِ المُرتَّبِ، وحَولُها قِطَعٌ تُـشبِهُ مُومياواتِ الفراعِنَةِ، وهي أَشياء مألوفَة، وقد عَلِـمْتُ أنَّ أَبي أحضرها من خلال كَلِماتٍ غير مَسموعَةٍ هَمسَها في أُذُنِ أُمي:
- قد يستطيع… تحريك… يتعلم… ذكاء… فوز
سَحبتُ يديَ إلى الأمامِ لأَتحسَّسَ مَلمَسها، ومُحاوِلاً تَـقْــليْــبَـها، فَـقد أَثارني شكلُها، فكانتْ حركةُ يَـدِي المُفاجِئةُ تُـثيرُ دهْـشةَ أُمي ومن حولي.
- هُــوَ يستطيعُ، لقد أَحبَّها…
جلسَ أبي على كُـرسيِّهِ مُمسكاً بقطعَةِ الكعكِ البُـنيَّةِ، وفي يـدِهِ الخَشِنَةِ ارتجافٌ خَـفيفٌ كُـلَّما حاولَ غَـرْسَ شَوكَتِهِ فيها، وتهربُ منهُ تلك المادةُ الهُلامِيَّةُ البيضاء، فهيَ بِلا عَـظْمٍ يَسنِدُها، ولأُخْـفِي حَـرَجي، وأثيرَ اهتمامهُم أكثرَ، حاولْتُ فتحَ عُلبَةِ الهديَّـةِ بطريقَةٍ ساذَجَـة، فغرسْتُ أَظافري فيها عَـلَّها تَستجيبُ، وتسمحُ لي برؤيَـتِها، وبصوتٍ مُتوتِّرٍ قُـلت مُجامِلاً أبي:
- ما أَجملَها…
وَجـدتُ نَفسيَ مُـنهمِكاً أكثرَ في ذلك النِّـزاعِ الساذَجِ، وحاولتُ أَنْ أَجلِـسَ مُعتدِلاً، لأَنْـتصِرَ في مُهِمتي الأُولى، فقد كانت مَلامِحي غيرَ مُتوازنَـةٍ بين فَرحٍ وَبُــؤْسٍ وَشَوق؛ لمعرفةِ ما يُخَبِـئُـهُ الصندوقُ الكرتونِيُّ المُبلَّط، وتَمزَّقَ أَخيراً، وانْسلَّتْ مِنهُ تِلك القِطعُ، وانتَشرتْ على الأرض، واحْتـلَّـتْ كُـلُّ قِطعةٍ منها مكاناً لها منْ أَرضيَّـةِ الرَّدهَـةِ مُعلنَةً فَوزَها الأوّلَ في مُغادَرةِ حُجرَتِها القديمـةِ، وتأَملتُ الهديَّـةَ، وتَـفكيري يتراوَحُ بين الجَـدوى والعَبَـثِ، كأنَّ جِـدالاً نَشبَ بين جسدي وعـقلي.
- هَـل يُوجــدُ شيءٌ أَستَطيعُ فِعلَهُ بها؟!
تَــقدَّمَ أبي بِـبُطءٍ، وجَلسَ على الأرضِ يُلَملِمُ القِطعَ المُتناثِرةَ، وَطاولةٌ بلاستيكيَّةٌ فَصَلتْ بيني وبـينَهُ، وبـدأَ يُـرتِّبُ عليها تلكَ القطعَ بِطريقةٍ ما، وعلى سَطحِ الرُّقْـعـةِ الكرتونيّةِ المبلَّطةِ بالأَبيض والأَسوَدِ، تشكَّلتْ شَواهِدُ صَمّاءُ تُـنْـبِئُ بِنظامٍ مُعيَّـنٍ جـذبَ تـفكيري، وليتـنحى جَسدِيَ الرَّافضُ قـليلاً.
- إنَّها الشَّطرنْجُ، لُعبةُ العُظماءِ والأَذكياءِ والقادةِ، ولأنَّـك منهم، سأُعَلِّمكَ اللعِبَ بِها.
كان شَرحُـهُ مُختصَراً، حاولَ فيهِ أنْ يَـبُـثَّ الإصرارَ في قُــوَّةِ يدي اليُمنى المُتمرّدَة على جَسدِي، لأنَّها ستَكونُ كافِـيةً للَّعبِ والفـوزِ، وأنْ يُخاطبَ عَـقلي، لأنَّ الإِنسانَ -حَـسْبَ رَأيهِ- يجبُ أنْ يعيشَ بكاملِ عَـقلِهِ لا بكاملِ جَسدهِ، فكثيرٌ من العظماء كُتِبوا في التاريخ من أفعال عقولهم.
تزاحَـمتْ في ذاكِرتي الأَسماءُ والحركاتُ والخُطَطُ، لأميِّـزَ بينَ الملكِ والوزيرِ، وكيفَ يقفِــزُ الحِصانُ، وهلْ تَصمدُ القلعةُ أمامَ الفيل؟ ولماذا تُــقْــتَـلُ البيادِقُ الضَّعيفةُ لِحمايـةِ الملكِ والوَزيرِ القَويَّـيْنِ؟
لم أكنْ أُدرِكُ قبلَ ذلك أنَّـهُ منَ الممكنِ أنْ تُصبحَ بَطلاً بِمجرَّدِ أنْ تَـتحرَّكَ من مكانِكَ، وـتَـصْنعَ نَصراً، أنْ تَــنْــتَـقِـلَ مِنَ المُربَّـعِ الأسودِ إلى الأبيضَ، كمن ينتقِـلُ من الظَّلامِ إلى النُّورِ، أنْ تَـتَـزحْزَحَ رُويْـداً، وتَجتازَ الخطَّ الفاصِلَ بينَ المُستَـحيلِ والمُمكِنِ، ودونَ سَببٍ مُحدَّدٍ لازمَني أَبي اللَّعِب، فهُـناكَ شيءٌ يَستطيعُ الأحياءُ فِعْـلَهُ مِنْ أَجْـلِ الموتى.
صِرْتُ أَسيراً للعبَةِ على مدى أَشهُرٍ مُتتابِعَةٍ، إِنَّـها الأيامُ التي بَـثَّتْ فِيَّ الحياةَ من جـديدٍ، كأنَّني بُعِثْـتُ مُقاتِلاً، وكانَ هُناك شيءٌ يَحْـتَـشِدُ في مُخيّلَتي مِن فُـنونِ المُراوَغَـةِ، والانتقالِ بين الحياةِ والموتِ، فقد غَـذَّتِ اللعبةُ في شَجاعَتي قَـناعَةً أَنني قد أموتُ بطريقةٍ أكثرَ عَبثيَّةً من البيادِقِ، وأكثرَ سُخفاً من الفيلِ الضَّخـمِ، وقد أعيشُ ليفعلَ عقلِي شيئاً سليماً بعيداً عن جَسدي، ونيابَةً عَـنْهُ.
لقد بدا العالمُ المُتقاتِـلُ على تلك الرُّقْـعَةِ الورقيَّـةِ قَـوياً، ورغم هَشاشَةِ إِمكانياتِهِ وقِــلَّةِ جُنودِهِ، فالغَلبَةُ فيهِ لمنْ يَـنظـرُ جيداً في مُحيطهِ، ويخطِّطُ بِدقَةٍ لحركاتِهِ، وينتَـقِلُ بِـبُـطءٍ وثباتٍ كالثَّعلبِ الذي سَيَخْـتَـطِفُ دجاجةً من قِـنِّها.
غابَـتْ عني صَرخَةُ اليأسِ المعتادَةِ لِمناداةِ عَطْفِ أُمي، وَحلَّتْ مَكانَها صَرْخَةُ النَّصرِ في وَجْـهِ شجاعةِ وصَبْـرِ أَبي، وبيننا نِزال لجَولاتٍ قِـتاليّةً لا حَصْرَ لَها، وقد أَدركْتُ جيداً أنَّني لا أحلمُ عندما بدأَ الأقاربُ وبعضُ الجيرانِ والأصدقاء يحتَفِلونَ بِنصري، ويخوضونَ مَعي أشواطاً قِـتالِيَّـةً مُتفرِقَـةً، وقد هُـزِمْتُ وَهَــزَمْتُ، ولكنَّ صوتَ النَّصرِ يفوقُ مَرارَةَ الهزيمة، واتِّـقادُ الانفعالِ في صَدري يرفُضُ العودةَ إلى الماضي، وَروحٌ مَعنويّةٌ يَصعبُ إِخفاؤُها، وابتِسامةٌ تَـرْتَـسِمُ كُلَّما انْـتـقَـلْتُ مِنْ غُـرفَـتِي إلى الرَّدْهَةِ، وَكُلَّما تَغَلَّبَـتْ قِطعَةٌ على أُخرى، وأَصْبَحَتْ كَلِماتي مَرِحَةً كُلَّما امتَـدَّتْ يَدي إلى مُساعدَةِ أَحَدِ البيادِقِ لإِنقاذِهِ مِن مَوْتٍ مُحقَّق.
وفي آذار، ومع ساعةِ شَمسٍ ربيعية، تهفو فيها النفسُ لتذكرني بعمر كالشتاء مضى، وليس لي الحق في استرجاعه، سارتْ بِنا السَّيارَةُ بين الأزهارِ، فقد أَخبرنِي أَبي أَنَّ نادِيَ البلدَةِ يُـقيمُ مُسابَقَةً في لُعبةِ الشَّطرنج، وأَنَّهُـم يدعُونَني لأُشارِكَ في المُبارياتِ، وكُنتُ أُصغي لهُ بِصمْتٍ، وتعلُو وَجهي قَتامَةٌ كأنَّها ظِلُّ الأَشجارِ على بُقعَةِ أَرضٍ ما زال الشِّتاءُ يغزُوها، إِنَّها خاصيَّةُ غيرُ المأْلوفِ من الكلامِ والمكانِ والزمانِ.
- هَـلْ يكونُ هُناكَ حَظٌ لِهذا الجَسَدِ العاثِرِ؟
وَيَـمتَـدُّ شَريطُ المكانِ هذه المرَّةَ، وتجاوَزنا مُفترقَ الحيِّ، وَدَخَلنا ساحةَ مبنى كَبيراً تَـلُفهُ الأَشجارُ، حيثُ بَدا لي مثل مَحارَةٍ تَـنْـغَلِقُ على ذاتِها، وأَنني أغوصُ في غابَةِ صَّغيرةِ باحِثاً عن لُؤلُـؤَةٍ في عُمْـقِها، وانفعالاتِي تَـزدادُ مشحونة بإحساسٍ كالهاربِ من رُعْـبٍ إلى آخَر.
آنَسْتُ وجوهاً مألوفَة تُطلُّ من بينِ الأَغصانِ، وخَـلْفها نافِذَةٍ تُشبهُ قفصاً من حديد، وَظَللتُ مُتوتـراً حتى وصلْنا البابَ الخَشبِيَّ بِـدَفـتيْـنِ كِبيرتَيْـنِ تَـزعَقانِ مِنْ صَدأ الأيام، وفُـتِـحَ لنا بِترحاب، وَتَـردَّدتُ بالدخولِ وأَنا في حالَةِ حيرَةٍ جَـديدَة، وَتَسْـتَـنْجِدُ عُيوني بعيون أبي المُشتاقة للدخولِ.
- لِنَـنْـزِل!
وَجَرَّ عَربتي إلى مَدخَلِ البيتِ على ممرٍّ مُخَصَّصٍ لها، وأَنا أَلتَـصِقُ بِعربتي، وَيعتَريني خوْفٌ كامِنٌ، بِأَنْ يَتَخلى عَني أَبي ويُودِعَـنِـي مَلجأً في تِلكَ الغابَـةِ بَـعد هَـزيمـتي في الحياةِ.
دَخَلْـنا النَّادي، وَشعرتُ أَنني مُحاطٌ برائِحةِ الحياة، وتَخلَّصْتُ من جَسدي، وصَعدتُ إلى عالمِ الأَحياءِ، واستمرَّ أَبي في حَديثهِ المُشجِّعِ دُون مَللٍ وانقطاعٍ، كأَنَّهُ يُـريدُ أنْ يَلْـتَـقِطَ شَيئاً من داخِلي حينَ كُـنْتُ طِفلاً، وَيُـنَحي عَني بِنَظراتِهِ هواجِسَ مَضَتْ، وَيدورُ حَـولي كَمن يُطارِدُ أَشباحاً تَـلُـفُّـني من كُلِّ اتِجاه، وأُراقِـبـهُ والمكانَ بِصَمْتٍ، وأَسْتَمِعُ لأَصواتِ الحفاوة بي دُونَ القيام بأَيٍّ من الاستجاباتِ المطلوبَة، فَأَنا غَريبٌ في كُلِّ شَيءٍ.
تَـقدمْتُ نحوَ طَاوِلَةٍ خُصِّصَت لي، وَعليها رُقعَةُ شَطَرنج خَـزفِـيَّـة، تَلْمَعُ من تِلقاءِ نَفسِها، كأنَّها تُعلنُ نَصري؛ لِـتُبدِّدَ نَظراتِ الشَّك الحارَقَةَ في عَينيَّ، ومع أَني كِدتُ أن أَفقدَ رَباطَةَ جَأشِي، وظَننْتُ فيما بَيني وبين نَفسي أَنَّني مَهزومٌ لا مَحالَةَ، ولكنَّني شَعرْتُ ببعضِ الدَّهْـشَةِ حينَ جَلستْ (شَيماءُ) لِتحارِبَـني في مَعركَـتِي الأولى، وعِندما التَـقَتْ عُيوني بِعُيونِها عَلِمتُ أنَّ للحياةِ سِحـرٌ مازال يفعلُ فِعلَهُ، وأنَّ الحياةَ تواصِلُ امتِـدادَها، وتوقِـظُ في كُـلِّ البشرِ جُـزءاً تُخفيهِ لهم كَهديَّةٍ رَبانيَّةٍ، عندما يَظنونَ أَنَّهم مَهزومونَ وبِلا فائدةٍ، فقد كانت شيماءُ لا تَسمعُ كَلِماتِي، ولا تَـتحدثُ إلا بابتسامَتِها وشَفَتيها، وترسمُ بيدَيها وأَصابِعها لوحةً من الكلامِ يَعجزُ الفنانونَ عن تَـلوينِها.
شَعرْتُ أنَّ حياةً جديدةً بَدأت لِتوها، وميلادٌ من رَحِمِ الأَملِ بدأَ أيامَهُ من المَـهد.
فما نوعُ الحياةِ التي سَأَحياها الآن؟
وأقولُ بِكُـلِّ صَراحَةٍ:
- لقد بدأ يُـفزِعُني الحماسُ الجديدُ للحياةِ، فأَنا أَخشى أَنْ أَسقُطَ مَـرَّةً أُخـرى من أَعْلَى الحياةِ إِلى قاعِها مِن جَـديدٍ، ولكن هلْ سَتطولُ تِلك اللحظات الَّتي اتَّـخَذَ فيها وَجهِي شَكلاً آخرَ؟
بَدأْنا اللَّعِبَ… وعيون أبي وابتسامته تتحرك مع حركاتي، وتصمت بصمتها. ويرتفع مكانه ويهبط كمن يضبط إيقاعاً ما.
- وأَنا لا أَعلَمُ هل أَخجَلُ مِنْ شُعورِ الشَّفَـقَةِ على شيماءَ أم عَلى نَـفْسِي؟
شَعَرْتُ أنَّـنا قَضينا مِئاتَ الدَّقائِقِ نَـتَحدَّثُ دُونَ صَوتٍ، ولَمْ يَفْـقِـدْ أَحَدٌ مِنّا إِيمانَه بالحياةِ والنَّصرِ، وَصَعِدنا سَوياً فوقَ ذلكَ المُنْحَدَرِ الطَّينيّ الزَّلِـق، مُتمسكَـيْـنِ بِصمتِـنا، وَنَظراتِ عُيونِها الَّتي قـدْ تَهزِمُي في جَولَةٍ ما، فَبَدأتُ أَخْسَرُ بَيادِقي واحداً تِـلوَ الآخرَ، فـشيماءُ تُجيدُ الهُجومَ بصمتٍ، وانتَـشَرَت رائِحةُ الموتِ عِندَما قُتِـلَ الوزيرُ، وخُيولُها تَـدوسُ الفِيلَةَ، واخْتَبأَ المَلِكُ خَلْـفَ آخرِ قِلاعِـهِ، وَعِندَ هذهِ النُّـقطَةِ أَصبَحَ واضِحاً لي مَغزى الانتصارِ، فما يَبـدُو لَنا كَهزيمةٍ حِيناً، يكونُ حِيناً آخرَ غلبة لِمَن نَحِب.
لا يَسْهُلُ شَرحُ ما حدثَ، فقد كنْـتُ فائِـزاً رغم هَزيمتي، فقد بدا الأَمرُ أَنَّها أَوجاعٌ غيرَ مُتصلَةٍ ظاهِـرياً بِجَسدي، فقلبي فازَ في جَولةٍ جَديدةٍ منَ الحياةِ، وكنتُ أَتمنى لِلحَظاتِ هَـزيمتي أنْ يَدومَ تِكرارُها، وأنْ تَتلَكأَ في ابتعادِها، فَلمْ تَكُنِ الهَزيمَةُ طَريقَةً سَيئَةً للبدايَةِ، لأنَّها تتسِعُ لنا لِنحيا فوقَ حُطامِ الحياةِ، كَما اتَّسَعَ قَلبي لِتَـقَـبُّلَ حُطامَ جَيشِهِ، وَهَزيمَتِه الأولى أَمامَها، فَأحياناً يُعالَجُ الحُطامُ بِالحُطامِ.
احمرَّتْ وجنَـتَيها عِندما أَعلَنَ الحَكَمُ نَصرَها، وَرغم حَرَجي لِسماعي ذلك، فَـقد اجتاحَتني أحاسيس الطُفولة بالرّضا والسَّعادةِ، كَمنْ يُهدي وردةً مُخمليَّةً لِصديقَـتِهِ في الرَّوضَةِ.
- يَبدو أَنَّكُما تَعرفتُـما جـيداً.
قالها بابتسامَةٍ عجيبةٍ، ويبدو أنَّه أمضى وَقـتاً طَويلاً لِترتيبِ ذلك اللقاءِ، فقـد كانَ جالِساً بين الحُضورِ مثل زَعيمِ قَـبيلَـةٍ يَجعَلُ النَّاسَ يُواجِهونَ قَدَرَهُم وحدَهُم، وانْطَلقنا نَحوَ البيتِ، وأَنا أَشْعُـرُ بِنَصْرٍ آخرَ في حَياتي، وَتَوجُساتٍ كَـثيرةٍ بأَصواتِها الخَفيَّـةِ الدَّافِئَة تَـمُرُّ مِنْ نافِذَةِ السيارَةِ كُلَّما ابتَعَـدنا عن النادِي، فَكُـنْـتُ مِثْـل نَـهْـرٍ يَـسيرُ وَبِجانِـبَـيهِ ضِفتَينِ.