ما لـم يَـقُـلْـهُ حسـن سلامـة

(خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ)
غنام غنام
قال تعالى: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ)
لا بد أن أبدأ حديثي عن الأسرى بالآية الكريمة التي تتحدث عن النبي الجميل المحبوب سيدنا يوسف عليه السلام، والإحسان بأنْ مَـنَّ الله عليه بالخروج من السجن، فلا مِحنة وابتلاء أكبر على النفس من مصادرة حريتها، وقتلها في القلوب، ولولا أنَّ السجنَ بهذه الصورة الكئيبة؛ لما خلّده الخالق قرآناً كريماً تُـتلى آياته؛ ليبقى التفكر فيها رغبةً، ويعيشه البعض منّا جبراً وكرهاً.
السجن أكبر عذاب للبدن والروح، والأشد إفناءً للمشاعر والذاكرة والأحاسيس، وتغييبٌ تام عن المكان والزمان والأشخاص. فإن كان الإحسان بالخروج من السجن، فما بالنا بالخروج من العزل!
واستبق قراءتي بما كرره سلامة في مذكراته من مناشدات مخنوقة متفرقة سواء بين السطور، أو في رسائله إلى عالم الأحياء، بضرورة الشعور أولاً مع الأسرى، والتضامن معهم ثانياً، ولو بكلمة أو رسالة، فهو عالم موحش جداً، قد ينير عتمته أيّ نوع من التضامن الكلامي أو الفعلي، ويعزز صمودهم، فما بالنا إن كان الأسير في العزل!
لم يكن اختيار (خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ) اسماً لمذكرات الأسير حسن سلامة عبثاً، فالعنوان نزيف من الألم المتواصل، نزيف بطيء مكتوم الصراخ والشكوى، وفيه من الاختناق كمن يتجرع ألمه لوحده، يضمد جراحه بالماء، ويغسل دماءه بالدموع، إنه الضيق الذي عشته بين الكلمات، حيث عشت القهر والضجيج والخوف، وجرّبت الجوع، وطاردت معه الحشرات والقوارض، وحاولت أن أتخيل جزءاً من المكان، أو تقلبات الحال؛ لأكتب وصفاً لعشرات الصفحات التي تتكرر أحداثها باختلاف بسيط، ولكن جرحَها يزداد عمقاً في كاتبها كلما أعاد رواية الأحداث، كمن يغرس خنجر الأحداث عميقاً في جسده، وكأنه يقول للقارئ: هذا يوم واحد، تكـرَّر خمسة آلاف مرة!
ابتعاد سلامة عن ذكر السنوات، واستبدالها بالأيام؛ إشارة دقيقة إلى حجم الألم الذي لا يقاس في حياة الأسير، إلا بالثانية والدقيقة واليوم، فلا مجال مع هذا الألم لاختصار العد، أو القفز إلى الأمام، لقد نسي سلامة أن يذكرنا بأنه نسي ملامح وجهه المألوفة، وانطفاء صوته من ندرة الرفاق، وتلوث نفسيته من الصراخ المشين المحيط به، وتطبعت أذناه بطنين الألم، فلم يعد يسمع إلا الأنين بكل أنواعه.
ظاهرة التكرار عند سلامة في مذكراته، سواء تكرار الفرح أو الحزن، فقد استخدام نفس التعابير تقريباً لكلا الحالتين، وذلك لأنه لم يعش فرحاً غير الذي عاشه، وإلا أخبرنا به، وما كانت (نصف الحمامة) المسلوقة إلا أكبر فرحة له بعد خطوبته، حيث كان فرحه الظاهر أغلبه مع غفران وعنها، أو التقائه ببعض الأصدقاء أو رفاق الدرب، كذلك تكرار وصف الحزن، فلم يخرج عن أقسى التعابير والكلمات في قاموسه، مؤكداً للقارئ أنه بحث عن تعبيرات جديدة ليصف بها ألمه، ولم يحالفه الحظ؛ وذلك لأنه عاش قمة الألم مقارنة مع باقي الأسرى؛ فهو كمن يدور في فلك الحزن ذاته يومياً، وتطل عليه نسمات الفرح نسبياً.
مكعب (روبيك):
الوصف الأول الذي تبادر إلى ذهني بعد قراءة المذكرات، حيث خُـيِّـل لي السجان كمن يجلس على حاجز عالم البرزخ، ويمسك بيديه المكعب كما يمسك السجن، ويقلب الوجوه الستة التي تشبه أقسام السجن، ويتكون كل وجه منها من تسعة مربعات تشبه الزنازين، في محاولة مستمرّة لخلطها، وتعقيد تناسقها قدر الإمكان، وليس لترتيبها وحلها، ويزيدها صعوبة كل يوم، محاولاً أن يسقط منها أسيراً إما مجنوناً أو ميتاً كما تحدث سلامة.
عالم البرزخ هو عالم الانتظار، عالم الحواجز والضيق، وعالم الفتنة، وهو بعد دار الدنيا بجمالها، وقبل دار الآخرة بنعيمها، تتعلق الروح فيه بالبدن، وهي تفقده شيئاً فشيئاً، وإن فارقته في وقت، رُدت إليه في وقتٍ آخر، ولا يعلم حقيقة هذا العالم، وهذه الحياة إلا الله، فلم تكن التسمية عبثاً؛ لأن الأسير ومعه الله فقط من يعلمان طبيعة حياة العزل.
مذكرات الأسير سلامة أدخلتني مباشرة في عالمه المعزول دون مقدمات، كأنه نسي الدنيا، ونسي حتى اليوم الذي سبق عزله، فلم يتحدث عن شيء آخر، وأقحمنا مباشرة وبوضوح في عالمه، وأهمل حتى الحديث عن أيام مطاردته في الخليل، وإصابته واعتقاله، وتفاصيل كثيرة قفز عنها رغم ألمها؛ لأنه عاش أكبر الآلام، لم يتحدث عن جولات التحقيق والتعذيب، وأهمل الحديث عن طعامه ونوعه ومتعةِ إعدادهِ إلا بكلماتٍ متناثرة لا تلفت النظر، لم يتحدث عن خصوصيات نفسه، ولا عن مرضه كأنه يقول لنا: بعد العزل لا شيء يستحق الذكر!
تحدث سلامة عن اعتقاله عند الصهاينة، وتجاهل الحديث عن اعتقاله عند السلطة الفلسطينية، وأشار سلامة إلى حكمه بالإعدام من محكمة أمريكية، وتجاهل أنه حكم عليه أيضاً بالإعدام من محكمة مصرية، وتلك الأحداث كانت قبل عزله رغم التشابه فيها، ولكنّه فضل الإشارة لما كان في عزله ليقول لنا: ألم الإعدام في العزل أكبر من ألمه خارجه، رغم أن كلاهما موت محقق.
عالم البرزخ هو عالم التقاء الأرواح لا الأجساد، عالم تلتقي فيه أرواح “الأموات الأحياء” بالأحياء، فكانت الإشارات في مذكراته ترسم ذلك بدقة، وكان سلامة يلتقي بالأصوات من خلف الحواجز مع الآخرين، أو من المذياع، وحتى (الفيسبوك) الخاص بهم، ومن رسائل الأهل والمحامين وغيرهم.
ويكرر سلامة حديثه عن العذاب كثيراً، والذي يشبه عذاب البرزخ، حيث يكون العذاب للروح وللجسد، فقد عانى سلامة من العذابين في الزنازين، وأحياناً تعذب بدنه أكثر، ولكن روحه كانت في نعيم العبادة، وأخرى في نعيم اللقاء بإخوانه الأسرى.
ينتقل بعدها إلى الحديث عن عذاب الروح وراحة البدن، ويريد سلامة أن يقرب لنا الصورة بأنه يتعذب في الاتجاهين، يريد أن يرسم صورة للعذاب أوضح دون اختصار، ولكن الكلمات التي استخدمها في كل مرة كانت نفسها بترتيب مغاير؛ لأنها كانت أقسى كلمات يملكها في معجمه آنذاك.
لقد كرر سلامة إشارته إلى الخوف، ومن المؤكد أنه ليس الخوف من الصهاينة، فهو لم يعرفه أبداً، بل الخوف على العقل والإدراك لأن معركته معهم في ميدان العقول، فما نقله لنا من شهادات عن أسرى ومعتقلين من العرب واليهود فقدوا عقولهم، وكيف أصبح حالهم، كأنه في صراع يومي للسيطرة على ثبات تفكيره وإيمانه، فقلة النوم والضجيج المستمر، والوحدة والضيق والحرمان من كل شيء؛ تفقد الإنسان توازنه، فالنوم الذي مللنا منه في السجون، يقول لنا عنه سلامة: لا وجود له في حياة البرزخ.
مذكراته هي ساحة معركة على مدار الساعة بين جيشين: جيش سلامة الذي تسلّح به يتشكل من جنود الصلابة والإيمان والعناد وحتى الصراخ، وجيش العدو بجنودهم وحراسهم وأدواتهم وزنازينهم، وكل ما يملكون من منظومة للقتل الصامت، وكانت معاركهم بين كر وفر، وفي كل الأوقات والأماكن لا ضوابط لها إلا واقع الحال!
أراد أن يصورها لنا معركته بجولاتها وغبارها وإصاباتها وجراحها كمشهد من فيلم حربي، علّنا ندرك معه ضراوة القتال؛ للحفاظ على العقل في أبسط الانتصارات.
لقد كان في مذكراته كالغصن من فرع شجرة أصيلة، اهتزت في بعض أيامها، وخسرت بعضاً من ثباتها وأوراقها، وزارها الضعف والشك أحياناً، وغزاه خريف الشيب من امتدادها، ولكنه أثبت لنا أنه عاد ملتصقاً بأمه الشجرة أقوى مما كان.
لقد برهن سلامة في مذكراته على مقدرته الهائلة على الاستيعاب للمكان والأشخاص والأحداث، ومقدرة فريدة في تقييم الأفعال، ورد الفعل المناسب لها، من خلال معاركه المتكررة لتحصيل بعض حقوقه، التي قد لا يلتفت القارئ إلى أهميتها للأسير المعزول، فخسارة رؤوس البصل التي كان يملكها تعد أيضاً من الخسارات، فقد أثبت للقارئ أنه قائد يقود معركته لوحده بعدتها وعتادها وخططها، فلا تلوموه إن خسر جولة، فالمعركة طويلة، ولم تنتهي بعد.
العزل بطعم الحب
ألاحظ أن سلامة في نهاية مذكراته كما في السطور الأولى من بدايتها، أعطى علاقته بخطيبته نمطاً خاصاً من الكتابة، وعرض الأحداث، فقد غابت عذابات البدن عن السطور، وتقلصت عذابات الروح للحد الأدنى، وحلت مكانها مشاعر جديدة، كأن طاقة من الفرج والفرح دخلت عالمه البرزخي، كأنها إطلالة على نعيم بعيد لامس مشاعره كالسراب في البداية. وقد أجرؤ على القول: لقد تحول سلامة إلى شخص آخر. أو أنه يخبرنا بأنه انتقل في عالم البرزخ من جانب العذاب إلى جانب الحب، ليجرب معركة شخصية تختلف في ميدانها.
رغم أنه لم يتحدث عن زواجه الأول، وانفصاله عن زوجته إلا بكلمات قليلة، وكان مبرره بأن لا يظلمها معه. ولكنني ألاحظ أن الأمر مع (غفران) اختلف كلياً في ظهور رومانسيةٍ من نوع مختلف، رومانسية فيها غُفرانُ تَغييبِ قلبه وإنسانيته وحبه عن الحياة، رومانسية مغلفة بالقهر، وحتى المشاركة من زملائه كانت في توجيهه ودعمه ومساعدته، وقد كان للأمين العام للجبهة الشعبية (أحمد سعدات) و(جهاد أبو غلمة) الأثر الواضح، حيث تحدث سلامة عن علاقته بهما، وأنهما كانا رفيقان من نوع خاص، حيث رافقاه في عزله ومرضه وخطوبته وتشجيعه، حتى أن (سعدات) كان أحد الشهود على عقد قرانه، كأنه يشير أن معركتنا الداخلية مع الاحتلال تشبه معركتنا الخارجية، وبحاجة إلى جولات من الوحدة والتكاتف بعيداً عن المناكفات والاختلافات، مضافاً إليها كذلك نوع من الحياة الاجتماعية.
لقد فعل الحب في قلب سلامة أفعالاً عجيبة، كأنه قدر إلهي، بأن يكتمل الحب في قلبه مع استثنائه من صفقة وفاء الأحرار، كأنها هدية ربانية ليحل شيء مكان آخر، فمن يستطيع كتابة (60) صفحة في رسالة واحدة لخطيبته، قادر على أن يعيش الحب منعزلاً، وقادر على أن يستمد الصبر من لا شيء، وقادر على صناعة الحب من الأثير، فقد استبدل مشاعر الحرية المكانية بمشاعر الحرية النفسية والعاطفية.
لقد عاش المعزولون فرحته، وساعدوه في التدريب العاطفي، وصياغة أشعاره ورومنسيته بأبهى صورها، فهي رسالة أنَّ المعزولين يتشاركون الحب كما يتشاركون الألم، فالقليل لديهم يكفيهم جميعهم، وما كانت نكاتهم وسخريتهم وتندرهم عليه، إلا نوعاً من المشاركة الوجدانية الداعمة.
“حسن، خلصنا، سنخرج من العزل رغماً عنهم!”
لقد كان تعليقه الأول على الخبر “أنني سأعود إلى الحياة….. حتى أتنفس” وهذا يخبرنا بمدى الضيق الداخلي في قلب المعزول، والضغط الهائل الكامن على مشاعرهم، وإشارته إلى الغدر المحتمل من العدو “ولو مؤقتاً”، ويظهر لنا جوابه أن أول ما اشتاق إليه التنفس بعد اختناق طويل، والشمس بعد ليل دامس، كأنه فعلاً شعر بخروجه من عالم البرزخ رغم عودته للسجن!، واشتياقه لصلاة الجماعة والجمعة، وتكبيرات العيد هي حال المؤمن الواثق بالله لأنه كان معه في كل مكان وزمان رغم التقصير من القريب والبعيد بحق الأسرى.
وختاماً، لقد صور لنا سلامة في مذكراته حياة أخرى نجهلها، ونجهل عالمها ومحتوياته، عالم لم تنقله السينما، ولم يحدث في الكوارث الإنسانية، عالم أشد من الأوبئة، وعليه أنصح الجميع بقراءة مذكرات سلامة؛ لنكون على عتبة الألم؛ وليزداد عندنا منسوب الوعي بمشقة حياتهم؛ ليكتمل التضامن معهم، ولنكن لهم خيط شمس تمناه سلامة أن يصلهم من بين الأسلاك والقضبان والفتحات.
لقد توقف سلامة عن الكتابة بقوله: (يومها يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء) وعسى أن يكون ذلك قريبا.