برقية وفاء

عندما يحيا الوطن في نفوس الرجال لا حدود لوجوه العطاء، وعندما يتمرس الفرسان على قيمِ العطاء، تتجلى في الكون نماذجَ البطولة، وعندما تتوشح الأسماء أوسمة البطولة، يبقى للأثرِ أن يكون وفيَّاً ويحكي عن مآثِر الرجال.
نائل البرغوثي..أكبرُ من أسطورة، وأعمقُ من ذاكرة، وأوسعُ من انتماء، بل وأعظمُ من مجرد اسمٍ لأسيرٍ قضى في السجنِ أكثرَ من أربعين سنة.وَيحَ البلاغة، ما أضَن مدادها عند الكتابةِ عن صنفٍ من الرجال انبعثوا من وحيِ الخيالات، وارتسموا على صفحةِ التاريخ مجداً ما له من آخر، فماذا نقول للدنيا يا ترى عن نائل؟ وعن أي فرادةٍ نحمِّلُ الكلماتِ عبء نقلها وتخليدها للأجيال عنك يا أبا النور؟ الأُفقُ كله أضيَق من أن يتَّسعَ لبعض ما قد يُقال.
عرفناكَ وما عرفنا في زماننا الغث أحداً يُشبهك، كنتَ أنتَ دوماً بلا شبيه أو مثيل، لم يكن السجن ولا كل ما يحتويه من حشرٍ للجسد في حيِّز المكان، أو تواطؤٍ على الروح في مسارِ الزمان في قاموسِكَ يعني أكثرَ من تجربةٍ في التحدي والنِزال، وفرصةٍ لقهر المحال، ومحطةٍ لصياغة الأمل، وصفحةٍ لأسطرة الصمود، ومساحةٍ لبناء الذات، وإجادةٍ وتميُّز في الإثبات أن الفلسطيني هو الأقدَر من بين شعوبِ الأرض قاطبة على فهم معنى الحرية، وتأصيلِ مذاهبها وتجسيد إرادتها ذاتاً وقضية، تلك الحرية التي تبدأ من الوعي بها ولا تنتهي عند حدود تحرير الوطن، بل تتجاوزها لتتحرر من استلابِ قيود العصر وما أحدثتهُ من عطبٍ إنسانيٍّ في القيم والأخلاق.
جَادَ عليه القدرُ بفسحةٍ من زمن الحرية، فانعتقَ من قيده إثرَ وفاء الأحرار ليلتصقَ بالأرض ويعبِقَ لروحه من عشقِ ثراها، كان يحاولُ اختزال عمره المهدور بين رطوبةِ الجدران، ويسابقَ قدراً ربما أحسَّ بفراستهِ المعهودة أن ساعةَ الرملِ في حريته شارفت على الانتهاء، وقد عاد!!
ثلاثون شهراً كانت وقتاً مستقطعاً اختبرَ فيه الحدَّ الفاصلَ بين الحياةِ والموت، بين الضياءِ والظُلمة، فعادَ أكثرَ صلابةً، وأشدَ تماسكاً، وأبهى أملاً رغم سيل الخُذلان الطاغي.خَبِرَ الرحيلَ كثيراً، أبيه وأمه وأقربائه، لكن ليس كرحيلِ صالح، نسمةُ الروح وابنُ شقيقِ القلب، لربما هيأهُ للرحيل العاصف من بعده لشقيقه الوحيد عمر، لكن ولأن نائل هو نائل، رأيناهُ أقوى، وظلَّ يقوى، وكأن إيمانه قد أحالَ الشدائد كلها مدَّاً يُضافُ إلى رصيدِ قلبه الواثق بالله والراضي بقضائه، وكأن ما به يقول: بأن البلايا مهما تعاظمت واشتدت، فإنها لا تدوم على أصحابها ولا تخلُدُ عليهم، بل إنها أكثرُ ما تكون اشتداداً، أقربُ ما تكونُ انفراجاً.
دمتَ للأحرارِ منارةً وخيرَ مثالودمتَ لفلسطين شاهداً على الأصالةِ والنُبل وتجذُر الوطنيةودمتَ لنا أخاً ومعلماً ومُلهماً، قدوةً ورفيقَ دربودامت لنا صورتُك الأجمل، وللأجيال سيرتُك التي نُباهي بها الدنيا ونُفاخر.