عَــريْــن…

حـارَةٌ في طَـرفِ المدينَةِ، شَـوارِعُـها مُـتآلِــفةٌ لا تَـقْـطَعُ وَصْلاً مَعَ بَـعضِها، وَلَيست واسِعةً كشَوارِعِ المدينة، وَمُعْـتِمـةٌ بَـعدَ العصرِ، وسَقْــفُها مِنْ أَقـواسٍ تشبه أقواس مسجدِها النَّصر، كُـنْـتُ أَجلِـسُ تَحْـتَها فَـتَـضُمني، وَتُعيدُ لي انطلاقَـةَ العَـزيمَةِ والأَملِ.
كُـنتُ أَتعثَّــرُ من حِجارةِ أَزِقـتِها البارِزَةِ، فَـلمْ أَكنْ أَستَـطيعُ السَّيرَ إلا بِـنَـظراتٍ مُتَـناثِـرةً تُجنِّـبِ الاحتكاكَ بالجِـدارِ الذي أذابَ طَرفَ حَقيبَـتي الأَيمن، والانحِناء لِحِـبالِ الغَسيلِ، والشبابيكِ المَفْـتوحَةِ، وَأَحياناً عَـلَيَّ أَنْ التَصِقَ بالجِدارِ؛ لأَسمحَ لغيريَ بالمرورِ، وبسطَةُ العَمّ (أبو طَلال) في آخِـرِ الـزِّقاق وأسمعُها تصدحُ بصَوتِ “بابـور” الكازِ الذي يَـصرُخُ بالأولادِ مُعلِـناً قُـدومَهُ، ناقِـلاً بِضاعَتَـهُ بعَــرَبَـةٍ مِـنْ ثَـلاثــةِ إِطاراتٍ، أَحَـدُها تالِفٌ – فقد أصابَته رَصاصَةٌ طائِشةٌ في لَيلَـةٍ ما- أَشتَـرِي مِنهُ الذُّرَةَ المَسلوقَةَ، أو الحمصَ المسلوقَ بالكَمونِ “البليلة”.
صُفوفٌ من البيوتِ تَـنامُ في وقـتٍ واحدٍ في مَجاهِلَ بَعيدَةٍ عن الحياةِ، تَـنامُ المحلاتُ، وعربةُ العمِّ (أبو طَلال) بعدَ آذانِ العِشاءِ وَأَحياناً بعدَ المغربِ، وَلا أَسمعُ إِلا أَصواتَ القِـطَطِ المُـتصارِعَةِ في حاويةِ طَــرَفِ الشارع.
يبدأُ غَضَبي بالتزايُـدِ، وَبِـشِقِّ النَّـفسِ أُمْسِكُ لِسانيَ عن التَّـذمرِ عِندما يَـبدَأُ أَبي نِداءاتِ النَّومِ المُتتابِعَةِ للعائِلَةِ بَعدَ تَـناوُلِ وجبَةِ العشاءِ، فَأَحْسُدُ دَجاجاتِ جيرانِـنا لأنَّها ما زالتْ “تُـنَـقْـنـِقُ” بِصوتٍ مُنْـخَفِضٍ، وَأستَـلقي في فِراشي مُحَمْلِقاً في تَـشققاتِ السَّقْـفِ التي تُـشبِهُ شَرايـينَ الجسم، فتَـتَجمَّعُ حَـوْلَ “النوّاسَة” وتَـمُـدُها بالدَّمِ لِـتُضيءَ ليلاً، أَشعرُ بأني أُعاني من مُتلازِمَـةِ الشُّقوقِ وجَريانِها، فهي أَكثَـرُ ما يَلفِـتُ نَـظريَ في البيتِ والشارع والمدرسةِ وكُلِّ مكان، أَتَـخَيلُها كَـتَـشَـقّــقِ بَيضَةِ دَيناصورٍ سَيَـخرُجُ لِينـفُثَ نارَهَ قريباً.
وما يُحيرُنِي ذلك “الشَّعْشَبون” الذي يَـقومُ كُـلَّ لَيلَـةٍ بإِلصاقِ بيتِهِ الواهنِ في زاوِيَـةِ الغُرفَةِ؛ مُخْـتَـبِئاً في عَتْـمَتِـها؛ وَتقومُ أُمي صَباحاً بِـتَـعْسيْـفِهِ بالمِكْنسة؛ لِيسقُطَ خَـلْفَ السَّرير، ولكنَّهُ يُعودُ مَـرَّةً أُخرى، وينسجُ خُيوطَهُ من جديدٍ بهدوءٍ عَجيب.
تُلاطِفُ سِتارَةُ الشُّباكِ سَريريَ الخَشبيّ؛ لِـتُسلِّمُ على النَّائِمِ فيه، وَتَـدفَعُ مَعَها رائِـحَةَ الياسَمينِ؛ لتوقِـظَهُ بُحب، لكنَّ هُـناكَ روائحُ أُخرى لا تفارقُ جِهازِيَ التَّـنَـفسي.
- لَسْتُ أَدري لماذا يَـقْـتُـلُنِي الفَـزَعُ كُـلَّ لَيلة؟
أَخافُ أَحياناً، وأعصابي ثائِرة، وتَــنَهُـداتي تَـنْـفُثُ بُخارَ ماءٍ مثلَ غَـيمَةٍ ضَبابيةٍ تُحاربُ أَطيافاً تُهاجِمُها، فَأَنا لا أَعلَـمُ ماذا سَيَحصُلُ إنْ غَـفَـوْت!
ما إنْ تُـقـفِلَ رُموشي أبوابَها على الحياةِ، حتى أَجِـدَ نَـفْسِي في فَـلاةٍ منَ الأرضِ، تَحوطُنِي مِنْ كُلِّ اتجاهٍ الأَسلاكُ الشائِكةُ، وأَنا أُصارِعُ لِـتَجاوزِها هارِبَاً مِنْ خَـوفٍ يَتْـبَعُني، فَتَـتَمزَّقُ مَلابِسيَ، وتَـتَناثَـرُ كُـتُبِـيَ فَوقَ الأَسلاكِ تارِكَــةً شُقوقاً في جَسَدي كالتي في سَقْـفِ غُرفتي، وأَصواتٌ مَجهولَـةٌ وَبعيدَةٌ تُلاحِقُـني طالِبةً مِني العودَةَ أو القفز، والعنكَبوتُ ينسجُ خُيوطَهُ كَذلكَ على السِّلْكِ الشّائِكِ بعددٍ أَكبرَ، وَلها أَنيابٌ وأَرجُلٌ طَويلَةٌ، وَمِنْ خَلْـفِها وَلَيسَ بِـبَعيدٍ، وَقُـرْبَ أَجَمَةٍ مُصْـفَـرَّةٍ، مُلَـثَـمٌ يُناديني دُونَ صَوتٍ، فَحَركاتُ يَديهِ وَرَأْسِهِ كَـفيلَـةٌ بِـذلك، يَتوشَّحُ كُوفِيةً سَوداءَ تُـشبِهُ نُـقُوشُها تِلك الأَسلاكَ مِنْ بَـعيدٍ، وَلا أَعلَمُ هَـل انطَبَعَتْ عَليها، أَم أَنَّـهُ تَغَـلَّبَ عَليها وَحَبَسَها في كُوفيّـتهِ!
- لنْ تُــنقـِذَني إلا مُعجِزةٌ منَ السماءِ أو تسوقُ لي المقاديرُ حَلاً ما.
ويطلعُ الصباحُ كالعادةِ مع تمتماتَ أُمي وأَبي…
- اثـنَينْ!
- لا يا حَج، ثَلاثة، وبقولوا في جَـرحى كمانْ!
نِداءاتُ الفـجْـرِ مع تَكبيراتِ الصَّلاةِ الَّتي كُـنْتُ أَسْمَعُها لمْ تَـكُـنْ إِلا أَصواتُ مُقاتِـلي الحَيِّ التي امتَـزَجَتْ مَعَ الأذانِ. استَـيـقِـظُ مَعَ ذلكَ الشُّعورِ الحادِّ في صَدرِيَ لِأُفَـتِّــشَ ذاكِرَتي عنْ بِـقايا حُلُمي، فقدْ أتْعَـبني الانتظارُ.
كَالمَوجِ أَسْـيرُ نُـزولاً “لِحوْش” الدَّار، فما زالَ تَــفكيري يَحْمِلُ خَـوْفاً ثَـقيلاً مُشتَّـتاً. أُحاوِلُ لَمْلَمَةَ أَفـكاري، وهلْ أَبدَأُ والدِي بِالتَّحِـيَّـةِ أمْ بالتَّـعزِيةِ؟ أمْ بنَشْرِ هُمومِـيَ بِـجانِـبِ صَحْنِ الفولِ وَحَـباتِ الفَلافِل، وَرَغيفِ خُـبزِ الطَّابونِ المُبَـقَعِ بالسَّوادِ؟ وَهَلْ أُطفِـئُ رائِحَـةَ النَّعناعِ مِنْ إِبـريقِ الشَّاي؟
هلْ سَتَـنهالُ عَـلَيَّ عَشراتُ المَواعِظِ الأبويَّةِ الَّتي أَحْـتَرِمُها، وَأَكْـتَسِيَ بِدعَواتِ أُمي قَبْلَ الذَّهابِ إلى المدرسَةِ، أَمْ أَجلسَ وأُلْـقِيَ هُموميَ كَما هِيَ لهُما.
أَسئِلَـةٌ كَـثيرَةٌ تُـتْعِـبُ تَـفكيريَ وَتَـتَرنَّحُ رِجلايَ مِنها؛ فَلا أَقـوى على السَّيرِ أَحياناً، وَصديقي أَدهمُ يَنتَـظِرُني في آخرِ الزِّقاقِ؛ لِنبدَأَ مِشوارَ اليومِ المُعتادِ، ولكِـنَّـهُ لا يَعلَمُ أَنَّـني قَـدْ أَنساهُ كَما يَحصُلُ أَغْـلَبَ الأَيامِ، فَأَنا أَعيشُ في مَكنوناتِ نَفسي أَكثـرَ منْ خارِجِها.
- كمْ نَحنُ أَشياءُ هَـشَّة!
- صَدَقْـتَ يا أَدهم
أَهْـرُبُ مِنْ أَحلامِيَ؛ لأَنْـغَمِسَ في حَياتِي، لكِنَّني أعودُ منْ يَـومِيَ كَمَنْ يُـغَطِّسُ كَعْـكَةَ اليانسونِ بالشَّايِ، وَسَرعانَ ما تَــنْـتَـفـِش وَتَـنْـقَسِمُ، لأَعودَ مَـرَّةً أُخرى وأُلَملِمَ شَتاتِيَ وَضَعفِيَ كَمَنِ انفَـصَلَ لحمُهُ عنْ عَـظْمِهِ، وَأَبحَثُ في أَعْـمَقِ كَيانِيَ عنِ السَّبَبِ، ومعَ ذلكَ أَسْتَمِـرُّ بالتَّـفَكُّـكِ.
لكنَّ هذا الصَّباحَ ليسَ كَـغَيرِهِ، فَـقدْ بَدا الزِّقاقُ مُعْتِماً أَكثرَ، يَنْـتَـشِرُ فِيه السُّمُ الأبيضُ وأَنا فيهِ كَجَنينٍ في رَحِمٍ واسِعٍ، وَلمْ يَـتَـبَقَّ لِيَ إِلا ساعاتٌ لِأولَدَ منْ جَـديدٍ.
جَلَسْتُ وَصَديقي عَلى الرَّصيفِ مُقابِل المدرَسَةِ نُـراقِـبُ دُخولَ الطُّلابِ وَتَردُّدَهُم الواضِحَ، فَكانتْ هَمَساتُهم مَسموعَةً لَلمُعلِّمِ المُناوب:
- اليومَ إِضراب؟
وَحَركاتُ يَديهِ مَعَ عَصاهُ الصَّغيرةِ مِثلَ “المايسترو” الَّذي يَـقودُ أُغـنِيـتَهُ اليوميَّةَ، ومَجموعَتُهُ مِنَ الطُّلابِ بِأصواتِهمُ وحَـركاتِهمُ المُتَـتابِعَةِ الَّتي لا تَـمَلُّ التِّكرارَ، ولكنَّ ملامحَ وجهِ المعلمِ مثلَ خَـريطَةِ الوطنِ، تُـقاوِمُ وَتطرُدُ كُلَّ أَحزانِ الأرضِ وَجورِها، وهلْ جَـفَّـتْ دُموعُ عَينهِ مثلَ بَحرِها الميت؟ واحتلَّتْ الأُخرى مِثلَ طَبريا؟
يوزِّعُ عليهم ابتساماتٍ مُـتَـقطِّعَة مثلَ حياتِهم وعيشِهم ودراستِهم، ويُعلِّمُهم ما تَـبَقى مَعَهُ… الابتسام، أو يُعطِيَهُم جُرعاتٍ منِ الأملِ!
رَنَّ جَـرسُ انتهاءِ الدوامِ، وخَرجنا من المدرسةِ كَجـيشٍ تَـحـرَّرَ منْ ثَــكَـنَتِهِ، ونسيرُ بِفِـرَقٍ مُتتابِعَةٍ، وَكُـلٌ مِنا يحملُ جُعْـبَتَهُ على ظهرهِ، وبعدَ عِدةِ أمتارٍ تَوزَّعَـتْ الفِرقُ، منا عائِدٌ إلى بيتِهِ، وآخرونَ تَوجهوا صَوبَ الحاجزِ البعيدِ، وَبَعضُهم وَقَـفُوا مُتفرِّجِـينَ لا أَكثر.
أنا وصديقي أدهمُ عُدنا إِلى الحَيِّ، ودخلتُ المسجدَ لأُصَلِّيَ العَصْرَ كَأَنَّـني صَغيرُ كَنغَرٍ لا يَشعرُ بالأمانِ إلا في جِرابِ أُمِّهِ.
وتحت القبة الخضراء رفعت يديَّ مناجياً وداعياً أنْ يرحمَ شُهداءَنا ويُعِزَّ أَحياءَنا بدينِهِ، واستَـندتُ على الجدارِ بِجانبِ رَفِّ الكُـتبِ، وكانَ من بينها يبرزُ آخِـرُ كِتابٍ فتحَـهُ صديقي الذي طالما تَطبَّعـت حياتُـنا من حِبـرهِ، ورسم لنا معالم الطريق بوضوح، ونَظرتُ إلى يميني مُخاطباً صَديقي…
- أشعرُ يا أدهم أنَّني جُرِحْتُ في المظاهرةِ.
يتفقدُ جَسديَ بنظراتِ عينيهِ، وَيَـتَحَسَّـس شعرَ رأسِيَ وملامحُ الاستغرابِ لا تفارِقُهُ؛ لأَنَّهُ يعلمُ أنَّـنا لمْ نُشارِكْ في المظاهرةِ، ولكنَّه صديقِيَ العَطوفَ، وأَكملْتُ حَديثي:
- ليسَ في جَسديَ بَلْ جُـرحٌ عَميقٌ في عَـقلي.
وصَمَتَ في حيرَةٍ، وعَلاماتُ الأَسَفِ تَـتَشَعَّبُ في وجنَـتَيهِ لِتُلامِسَ عيونَهُ المُستَغرِبَةَ.
- وكيفَ جُرحَ عقلُكَ يا صديقي؟
أَشْعُـرُ أَنَّ الكُلَّ يَتَـجاوَزُنِي وَيَـسبِـقُنِي دائِماً، مثل أَوراقِ خَريفٍ دَفَعَتها مَوجَةُ رياحٍ مَوسِميَّةٌ من خَلفِيَ، وأنا لا أَجرؤُ على النظرِ إلى الخلفِ خَوفاً من أنْ يُصيبَـنِي غُصْنٌ طارَ معَها، وأُجاهِـدُ نَفْسِيَ لأَعرِفَ منْ هُم؟!
- لا أَفهَمُكَ يا صَديقي.. مَنِ الأوراق!
إنها أيامُ حياتِيَ، وليالِي الحيِّ المُتعاقِبَةُ، واندفاعُ الناسِ لِفعلِ شَيءٍ، وَأنا أُراقِـبُهُم من نافذَتِي فقط، إنَّها رائِحَةُ الياسَمينَ في كُلِّ مَكان….
أحاولُ أنْ أُغْـرِيَ نَفسي بالنَّومِ، فَـتجتاحُنِي الأَحـلامُ، وأعلـمُ أنَّ النَّومَ في حَيينا ليسَ مُتاحاً، فهو نِـداءٌ يَطرُقُ جُدرانَ قَلبِيَ، ويُحرِّكُ أَطـْـرافِـيَ بِأَنْ أَتَـحَركَ، وأنْ أَتَجاوَزَ كُلَّ الأَسلاكِ الشَّائِـكَةِ في حُلُـمِي..
- أسلاكْ! حلمكْ! ماذا تقولُ يا صديقي؟
- إِنَّها أَسلاكٌ وَهميَّةٌ يا أَدهم، تَضَعُنا في ظَلامٍ مُخادِعٍ.
ولا يعلمُ صَديقي عنْ ذاكَ المُلثمِ الذي ما زالَ يُـؤّشِّرُ بِـيَدَيهِ ويَحُـثُـنِي على التَّجاوِزِ، تَـجاوُزِ مَخاوِفي وحُـدودِي، وَتجاوزِ الحَيِّ وتَـعَـثُرِي في طُرُقاتِهِ.
تجاوزِ أَكاذيبِ المَرضى منَ الوطَنيينَ المُنْبَهِرينَ بالمُسميَّاتِ الخادِعَةِ، لأنَّـه حينَ تضيقُ الحياةُ وتكثرُ الهموم؛ تَـتداخلُ المشاعِرُ والأفكارُ، وكل شيءٍ يتراكمُ فوقَ حياتِـنا.
- لقدْ قَرأتُ يا صديقي عِبارةً مِـنْ وصيَّةِ شَهيدٍ، وكان مُلثماً أيضاً، وجاءَ فيها:
“عَلينا أنْ نَـنْـفَصِلَ عن كُـلِّ شَيءٍ وَلو لِلحظةٍ واحدةٍ، أو لَحظاتٍ قصيرةٍ مُتـتابِعة، لأنَّ هذا الانفصالَ يُعيدُ ضبطَ البوصلةِ، بَلِ المسأَلةَ كُلَّها، أنْ نَـنْفصلَ لِنُـقوِّيَ ارتباطَنا بالخالقِ، ونلجأَ إليهِ مُستعينينَ بهِ فقط، أنْ نتوحَّـدَ مع مَسيرِ نَبينا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فَلا عِزَّ لَنا إِلا بِهِ”
- ولكنَّ المُلثَّمَ في حُلمي يبدو أنَّـه يحفظُ البوصلَةَ بعيداً عن أيِّ تشويهٍ ويدركُ الاتجاهَ عقيدةً ومبدأ.
- من هو الملثم؟
- لقد قلتَ أَنت، الملثم! فكيفَ أَعرِفُـهُ؟ ولكنَّـك سَتَعرِفُهُ أنت!
كُلنا يا صَديقي قادرونَ على الكتابةِ والكلامِ، والانزعاجِ والغضبِ، ولكنّ المدينَةَ أَصبَحتْ لِلصوصِ السِّياسةِ والمالِ والقراراتِ، صُنّاعَ خيبةِ الأملِ، الذينَ اجتاحوا ما تَبقى من كرامةِ الشعبِ وحُريتِهِ، بَـلْطَجةُ الرَّأيِ حَـوَّلَتْـنا لِمسخَرةٍ وطنيةٍ، وهنا في الطَّرفِ نَسمعُ زَئيراً متقطعاً كُلَّ يوم يُـرْعِبُ هؤلاءِ اللصوصَ، فَـنِداءُ “الله أكبر” أقوى مِنَ الكُلِّ.
- الملثم يا أدهمُ هو بِـذرَةُ خَـيرٍ تُـثمرُ دائِماً؛ لأنَّ جُذورُها في التّربَـةِ غَـيرِ المُباعَة!
- وَلكنَّـنا في ضَعْـفٍ وَهوانٍ وَذُلٍّ مُـنذُ زَمَـن…
لَو يَعلـمُ صَديقي أَنَّني أَحتاجُهُ وَقْـتَ ضَعفِي؛ لأُخبِرَهُ عن حقيقةِ حالي، بَعيداً عن تفاؤُلي في كَلِـماتي، ولكنَّني سأعتادُ في النهايةِ، ولا أعرِفُ إِنْ كانَ ذلكَ أسوأَ ما يحدُثُ لي أو أفضَلَهُ، فَـقد تَعلَّمتُ من تَجارِبِ اللَّيالي أنْ لا بُـطولَةَ واضِحةً ولا كامِلةً في مواجَهَةِ الأفاعيَ السَّامَّةَ المُلتَـفَّـةَ حَولَ حَيينا وحياتِـنا، وحتى طموحاتِنا، ولم يبقَ لَنا سِوى ساعاتٍ من ليلٍ نسمعُ فيها زَئيراً مُبشراً.
- اعلمْ يا أَدهم، عِندما نَخَرَ سلامُهُم أَنيابَ قوَّتِـنا؛ خَـرَجَتْ لَنا الأفاعِي مِن جُحورِها مُحاوِلَةً خَـنْـقنا وتغييرِ مبادِئِـنا بجرعاتِ سُمٍ مُتفاوتِةٍ، واعتبروا سُمَّهُم مَناعَةً لنا ضِدَّ موتِنا!
كنتُ في أحلامِي أقفُ على مفترقِ طُرقٍ ضَيِّقٍ، حيثُ يتقاطَعُ شارِعُ الحارةِ معَ شارِعِ المدينَةِ، وتَختَـفِيَ رائِحةُ الياسمينِ بعدَ التَّـقاطُعِ، ولا أَحَدَ يَتَجاوَزُنِي هُناكَ، وَتَـتجمَّدُ مخاوِفيَ كَأنَّها دَخَلَتْ فَصْلَ شِتاءٍ قاسٍ، وَيَـتَعَـرَّقُ جَبينِيَ وتَقوى رِجلاي، وَيُخيِّـمُ الصَّمْتُ العَميقُ على الكُلِّ إِلا لِسانِيَ لمْ يُغَلـفـهُ الصَّمتُ، ويُـتَمتِـمُ بِكَلِماتٍ ثائِـرةً مِنْ بَقايا ذِكْرياتِيَ وصَلَواتِيَ، وأَدْرَكْـتُ أنَّ الذينَ يَسيرونَ في المدينةِ منْ كِبارِ السِّنِّ في الوَطَنِيَّةِ خَذَلَتْهُم مَسيرَتُهم، فأَصبحُوا في سكينَةٍ عجيبةٍ، يَجْلِسونَ في مَقهىً ضَيِّقٍ مُحاطٌ بالحَرسِ والخَدمِ، ويَكسِرونَ الكأْسَ الذي يَشرَبونَ مِنْهُ، ويَحرِقونَ كَراسِيَّهُم إِنْ جلسَ عَليها غيرُهم، وَيَلْبَسونَ أَحْـذِيَةً مِن قُماشٍ تَـبْتَـلُّ إِنْ وَطِئَتْ أَقدامُهم شارِعاً ويسيرونَ مِثْـلَ صُقورٍ نُزِعَ ريشُها ويعيشونَ بِكبرياءٍ كاذِبٍ، فقد أصبحوا حمائم وديعة، ومن يراهم يشعر بالكآبة والأسى.
يعيشون في حاضر مقلق وَحُوصِرَ مُستقبَلُهم بألاعيبَ نَجِسَة، لا أعلمُ إن كانوا نادمينَ على تركِ وُجْـهَتِـهم في الماضي معتقدينَ أنَّهم قادرونَ على إيجادِها في المستقبلِ.
الآلافُ تَمرُّ من أمامِ المقهى، ومنَ الصَّعبِ تمييزُ الأطفالِ من الشبابِ وحتى الشيوخِ، ولهم صَرخَةٌ مسموعةٌ.
- ما صرختهم؟
- يا أدهم، صرختُهم تكبيرُهُم في محرابِهم، ورصُّ صفوفِ أقدامِهم معَ أَنْـفاسِهم العالية.. طَلباً لِسحـرِ الشَّهادَةِ التي تَـفعلُ فِعلَها.
لقد هَجروا المَقهى، ويصارِعونَ اليدَ الثَّـقيلَةَ على أفواهِـهِم وحُريتِهم وكبْـتِـهم، يسيرونَ نحوَ المُفتَرَقِ نحوَ رائِحَةِ الياسَمين ليزُفوا شَهيداً مُلَـثماً هُناكَ، ولِـيتَرَبى طِفلٌ آخرَ على رائِحَةِ الحيِّ ليكونَ شَهيداً آخر.
- يبدو أنَّـنا يا صديقي نعيشُ زمنَ خِطاباتِ النِّـهاياتِ وأَفعالِها، ونهايةِ جمهورِ القطيع، وظهورِ التَّـوسلاتِ الجماهيرية بالحشودِ القسريَّةِ الرَّخيصَةِ لِلحِفاظِ على القديمِ المُنتَهي.
- سنعودُ يا أدهم رويداً رويداً؛ لنحتميَ بالأقواسِ والقبابِ، فهيَ عَرينُ الصادقينَ المُخلِصينَ.
لقد عُـدتُ إلى الحيِّ دونَهُ هذهِ المـرَّة، وكُنتُ أَتَحدَّثُ بصوتٍ مكتومٍ حتى لا تصلَ كَلِماتيَ إلى مَسامِعي، ولكنَّه كانَ يسمعُنِي بصَمتٍ، ويُـرافِـقُني إلى المسجدِ والمدرسةِ والحي وعربةِ العمَّ (أبو طلال)، ودائماً تعلو وجههُ نظرةً تَـشَقُّ عِظامِيَ بخيوطٍ رهيفَةٍ ممتدةً من الشمسِ، لم أكنْ أَتَوقعُ يَوماً أن يكونَ الظِّلُ لِحياتي، لقد كانَ نوعاً خاصَّاً من سُكانِ الحيِّ، محاطٌ برائِحَتِهِ التي سَتَهُبُّ عَليَّ من نافِـذَتي، وَيَصِلُنِي سلامُهُ معَ السِّتارةِ كُلَّ لَيلَةٍ.
كُـنتُ أَتَمَنى أنْ أُخَلِّصَ نَفسيَ منْ تِلكَ الأسلاكِ لأقفزَ إليهِ، فَلا أَنا قادِرٌ إلى الانتقالِ إلى حياةِ الشُّهداءِ، ولا هُو قادرٌ على العودةِ إلى عالمِ الأحياءِ.