اجتماعيةتدويناتتربوية

لا تغضـب!

 تتهشم قيمنا الاجتماعية تِباعاً بعد ظاهرة الاعتداء على المدارس ومعلميها، سواء في داخلها أو خارجها منذ بداية العام الدراسي، إنَّ العنف الحاصل ظاهرة لم تنشأ من العدم، وتقف خلفها مجموعة من العوامل الاجتماعية المَرَضية تعكس الوضع الخطير والمقلق لما آلت إليه أخلاق مجتمعنا، ونذير خطر لمسير التربية البيتية، واتجاه القيم المجتمعية وتبدل مفاهيمها، وانحراف المبادئ الدينية، وفقدان السيطرة على السلوكيات، وغياب مبادئ وأسس الاحترام.

يترك مرتكبوها أنهاراً صافيةً من ود العلاقة واحترام الإنسان وتقدير الدور؛ ليغوصوا في مستنقع تفاقمَ فيه الداء.

لن أناقش من البادئ في سلسلة الاعتداء سواء كانت أخطاء بعض المعلمين، أو رد فعل أولياء الأمور عليها.

لأن ما لفت نظري العنوان الأكبر لكل ما يحدث، وهو ظاهرة الغضب في مجتمعنا الفلسطيني، واتجاه سير الغضب ومجراه، حيث أصبحت ملعباً للعنف، ومظاهر الشغب، فقد أُطفئت عقولنا وكأننا نتحاور باليد والسلاح والحجارة في مشاكلنا (طوشنا).

فهل تعثر الآباء في نقل قيم الدين لأبنائهم؟

أم أن الآباء أنفسهم غابت عنهم الثقافة الحقيقية لتربية أبنائهم؟

أم أن مربياً آخر يقوم بدورهم؟

وهل لبقية النظام السياسي الحاكم علاقة في غياب العدل وشيوع الظلم والتسلط؟

وهل لغياب حرية الرأي والفكر دور؟

وهل دور القضاء الباهت في حل مشاكلنا ومحاسبة الجناة في كل صعيد؟

وهل تمت محاسبة المعتدين على المعلمين والأطباء والمعارضين؟

وهل وصل الناس لدرجة اليأس من العدل والعدالة؟

وأخيراً هل ترسخ لدينا مفهوم أنصر أخاك ظالماً وخذ حقك بيدك؟

في هذا المقال لن أتطرق لتلك الأسئلة بتفاصيلها، وسأترك إجابتها المختصرة للقارئ أو للباحثين المختصين، فكل سؤال منها يحتاج لدراسة مفصلة، وسأركز حديثي عن مصدر الشرور كلها، وهو الغضب ومنبعه فيما آلت إليه حال مدارسنا وجامعاتنا ومجتمعنا بشكل عام. فالغضب عاطفة طبيعية للتعبير عن الشعور لكن من الهام التعامل معها بطريقة إيجابية لا انقياد أعمى.

يعاني الكثير منا وخاصة جيل الشباب من مشكلات تفقدهم توازنهم، وتصدع العلاقات التربوية والاجتماعية والنفسية بين مكونات المجتمع، وحين ندرك أنَّ الضغوط النفسية التي نعانيها رغماً عنا ومن طبيعة الحياة المدنية المعاصرة، وتراكمات احتياجاتها، ويُحس كل فرد منا أنَّه تحت ضغط نفسي طوال اليوم، وربما نشعر بقلق أو شد عصبي وعدم استقرار وحزن وغضب، وربما خليط من المشاعر غير المريحة، وحالات الانتحار والقتل مؤشر خطير على ذلك.

يبدأ الفرد منا رحلته اليومية من غير وجهة مريحة، ولا سعادة واضحة، نعتقد أنَّ المتعة اللحظية هي السعادة، وتختلط مفاهيم اجتماعية كثيرة، فنحن نعيش دور المستهلك لكل شيء، وكل ما نقوم به لا يعد إنجازاً حقيقياً كمن يحرث الماء!

الضغط النفسي أحد المفاهيم التي اعتدنا جميعاً على سماعها، خصوصاً في ظل الحياة المُعاصرة التي أصبحت مُشبعة بالمشاكل، فلا يُوجد إنسان على وجه الأرض لم يَتجرّع مرارة هذا الاضطراب، وعدة حالات تدفع للإحساس به، حتى أنّ واجباً مدرسياً يومياً يثير حفيظة الأهل والطلاب، أو تحضيراً لامتحان يبدو كما لو أنه سيدوم إلى ما لا نهاية، وربما يكون عرضة للتنمر والاعتداء في المدرسة، أو مشاكل مع المعلمين، وفي المنزل ربما تدخل في جدال مع أبويك وإخوانك وزوجتك وأصدقائك المقربين، ويكون الضغط النفسي أسوأ فيما لو كانت العائلة مفككة مشتتة، أو أحدهم مصاب بمرض أو توفي .

مشاغل الأب وهمومه، وانشغالات الأم ووظيفتها في بيتها وخارجه، وشكوى الأسرة والديون والتجارة والعمل…. عوامل لا تعد ولا تحصى تعيش معنا، وتنام بجانبنا مثل صوت يطن في عقولنا ليل نهار، وما نعانيه من ضغط الاحتلال الهائل على حياتنا وطموحاتنا وعائلاتنا وأعصابنا وعقولنا، وتفرعاته علينا جميعاً من قتل وإغلاق وتضييق….  

يوثر الضغط النفسي علينا بالقلق مثلما يؤثر جسمانياً كأنه مرض ينخر داخلنا، وربما نجد صعوبة في المحافظة على التركيز، أو أن نتعامل مع الإحباط، أو نسيطر على مزاجنا وتصرفاتنا وردة فعلنا.

ننفجر كالبركان لأتفه الأسباب، ونعطل تفكيرنا المرهق، نبدأ بإفراغ ضغطنا وإحباطنا في مفارق الطرق وأزمة السير، وفي انتظار دورنا نتجاوز طابوراً ليس للتسابق بل في محاولة بائسة للانتصار ولنتجاوز قلقنا…  نهاجم مدرسة وروضة وجامعة، ومحلاً ومؤسسة لأي سبب يلامس كبتنا وضغطنا، كأنه أصاب دملاً مزعجاً لنا، وتسبب في ألم لا تطفئه الصرخات… وتبدأ معركة التلاسن وصولاً للأيدي والأرجل، فلا نميز بين حلال وحرام، وبين طفل ورجل وامرأة، لا نشعر أين نحن، ولا مع من نتصارع، ولا نشعر بالسوء؛ لأن ما أخرجناه فيهم كان أسوأ ما فينا!  

في نظرنا الكل يسيء لنا، ويضيف لتعبنا قشة فوق حملنا المنهك، حتى لو كان معلماً أضناه سلوك ابننا الذي تطبع منا… وتوقعاتنا كانت عالية من مدرسته وعلاماته ففاجأنا بعكس ذلك، أو طبيباً يداوي ألمنا وجراحنا.

نحطم مكانة كل من يقف في طريقنا أو يزعج هدوءنا المؤقت وتفكيرنا المضطرب بالتهكم في مجالسنا ومواقع التواصل الاجتماعي، لا نتورع أن تطال ألسنتنا شيئاً أو شخصاً، نبتكر له العيوب ونصبها وبالاً عليه، ننفخ في عيوبنا وعيوب الآخرين غير مدركين أننا نهدم قلاعنا حجراً حجرا.

 وأغلب ذلك استجابة للضغط النفسي وللضغط الجسدي أو العقلي أو العاطفي، الذي يتعرض له الشخص ويَستجيب الجسم للضغط العصبي من خلال ردة فعل مُعقد للجهاز العصبي والغدد الصماء، ويَتمثل الرد في حدوث بعض التغييرات الكيميائية في الجسم، والتي قد تُؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم ومُعدل ضربات القلب، ومستوى السكر في الدم، وغير ذلك من تغيرات جسدية ونفسية، وذلك لمساعدة الجسم على مواجهة الضغوطات التي يَتعرض لها.

فيؤدي إلى العصبية والعنف والإرهاق والتعب، وكثير من الأعراض التي نعتقد في خيالنا أن الآخر هو من سببها لنا!

يُعد تأثير الضغط النفسي على الصحة أحد أشهر أضرارها، فنحن نعيش في عصر تعصف به الأمراض الجسدية على اختلاف أنواعها، والمفاجأة -حسب أحد الأبحاث- أن 83% من الأمراض نتيجة الإصابة بالأمراض النفسية أو الأمراض “النفس بدنية” والتي يقع على رأسها الضغط النفسي، إذ يؤكد الطب أن أي مرض أو اضطراب نفسي يُغير في كيمياء المُخ؛ فينتج عنه خلل في وظائف الجسم الحيوية، وذلك لأن العقل والفكر والأحاسيس والسلوك ليست سوى تفاعلات كيميائية وكهربائية تُؤثر بشكل مُباشر في الخلايا العصبية في الدماغ، وبالتالي تتأثر جميع العمليات الحيوية في الجسم، ومن ثم تبدأ الأمراض المُختلفة في الظهور، وعلى سبيل المثال أنه في أثناء الضغط النفسي والتعب والإرهاق تَقوم الأعصاب بإفراز هرمونات تَعمل على إضعاف الجهاز المناعي.

وأول ما يعاني منه الشخص المتعرض للضغط النفسي هو فقدان الصبر والتحمل ومحاولة إنهاء الضغط في حينه، وهنا يُعرّض هذا الشخص نفسه إلى مشاكل وضغوطٍ أكبرَ من الضغط نفسه.

الهدف من إدارة الضغوط ليس للتخلص منها فهذا أمر يستحيل في ظل ظروفنا، إنما للتخفيف منها، إذ أنه لا يوجد شخص لا يعاني منها، ولكن قد تؤثر على بعض الأشخاص، وأشخاصٌ آخرون يكون لديهم مناعة تجاهها، أو وصلوا لمرحلة تعايش معها كمن يطبع مع محتل سرق أرضه، ويمكن في حالة التعامل الصحيح مع الضغوطات النفسية أن تتولد مناعة وصبر فائقان تساعد الإنسان على إدارة الضغوط ومحاورتها بعقلانية دون استسلام لها والوقوع في مطبات قد تكون نهايتها كارثية.

على كل فرد منا أن يشعر بقيمته الإنسانية وقيمة الآخر حتى لو خالفه في كل شيء، وأن يستمتع بالمتاح له ضمن دائرة الحلال، وأن يتعامل مع من حوله من مكونات اجتماعية بالرقي طالما هو يدعي الأفضلية فيسقطها على الآخرين.

إننا مسلمون نعلم أن الحياة ومكوناتها تتطلب منا التناغم والانسجام لتحقيق هدف العبادة؛ ليزداد لدينا منسوب الاطمئنان النفسي، ونستشعر بوجود القيم والأخلاق التي تحكم سلوكنا وتضبط مشاعرنا وغضبنا.

إن تحقيق السلامة المجتمعية يتطلب منّا أن نزداد تكاملاً مع ديننا وأخلاقنا، وأن نجد معنى الحياة، وأن نجد ذاتنا في قيمتنا الحقيقية كبشر، وليس بما يرفرف حولنا من كماليات تعمي بصائرنا، فالنقص الجسدي والمادي ليس عيباً مجحفاً يقودنا للعنف والتسلط.

وبقليل من إدارة المشاكل الواردة إلى حياتنا والوقت المتاح لها ولعائلاتنا وعبادتنا نتجاوز الكثير، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا حين أتاه رجل وقال له: (دلّني على عمل يدخلني الجنة، فقال رسول الله: لا تغضب ولك الجنة) فالغضب جماع الشر كله، والتحرر منه فيه كل الخير، فالغضب منقصة للدين وللصحة وللحياة الاجتماعية، وحديث الغضب السابق هو ربع الإسلام كما قال أحد العلماء.

وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حُسن الخلق، فقال: (ترك الغضب) لأنه من أقبح الأخلاق المجتمعية ويخرج الإنسان من إنسانيته إلى البهيمية، ويحمله على تصرفات من السب واللعن والشتم والضرب والاعتداء وإتلاف المال وحتى النفس.

لا تغضب.. فأنت حسن الأخلاق لأنك مسلم، ولا تغضب لأنك تقف بين يدي الرحيم الغفور العفو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصُّرَعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

ولكل غضبان أقول: إن جميع المفاسد التي تعرض للإنسان هي من شهوته ومن غضبه فتحرز منهما لأنهما أعظم ضرراً وأم القبائح، واملك نفسك عند حصولهما تكن قادراً على قهر أقوى أعدائك!

قد يقول قائل: ما علاقة ما سبق بالاعتداء على المدارس ومن فيها؟

إن الغضب الناتج عن الضغط النفسي يعكس أزمة مجتمعية حقيقية فالعنف وارد، وما نلاحظه من عمليات الثأر والاقتتال وحرق البيوت والكثير ما هي إلا طلقات نفسية مجنونة نوجهها إلى الحلقة الأضعف في مجتمعنا، طلقات تركت الدين وراءها وقفزت عن الإنسانية والقيم والأخلاق، فيعيش مرتكبوها فراغاً قيمياً وروحياً يورثونه لأبنائهم، حيث أن مجتمعنا فقد الكثير من القيم وركائز الأخلاق والحياء الذي هو من الإيمان.

نعم، وللأسف!

فقد توشحنا بالغضب نتيجة ما حملناه على ظهورنا من معصية ومن تقليد ومباهاة ومفاخرة تبعاتها كبيرة على الكل، فقد صرنا طبقات اجتماعية تتفاضل بالمال أو البلطجة أو الحزبية مستغلين ضعف السلطة الحاكمة وتوغل الاحتلال فينا.

فمن استباح لنفسه الخمر والعري والزنا والرقص ويتباهى بوضاعته؛ تهون عليه الحرمات كلها، فلا حرمة لمسجد يدنسه ويكتم صوته، ولا لمدرسة أو بيت وشارع، لا حرمة عند من لا حرام يقلقه فعله.

اغضب لدينك وعندما تنتهك حرمات الله، واغضب لأرضك المغتصبة، واغضب للأقصى والمسرى وأطلق غضبك ويديك وقوتك ولسانك وسخريتك على محتل تقف أمامه بكل طاعة.

آباءنا الكرام، وطلابنا الأعزاء ومجتمعنا المسلم الرائع:

 يجب أن تكونوا على استعداد تام للسيطرة على غضبكم بالتفكير قبل الحديث، ولا تجعلوا نوبات الغضب تخرس ألسنتكم وتعطل عقولكم، بالهدوء والصبر تتضح الأحداث، ويأخذ التفكير دوره الصحيح دون إيذاء وسيطرة، وبدلاً من التركيز على سبب الغضب، ونفخ النار فيه، وإثارة عواصف الرماد من العنف والفوضى؛ لنحدد الحلول بدلاً من الانتقام والثأر، لأن الغضب لا يزيد الأمور إلا سوءاً.

التروي والتأجيل والوقوف على حقيقة أي حدث يجعل منك إنساناً يتحلى بالاحترام والتقدير ويجعل المخطئ بحقك يذوب خجلاً منك، فلا تحمل الضغينة، والتسامح وسيلة قوية لطرد المشاعر السلبية وأدوات الانتقام، قد تشعر نفسك غارقاً بالمرارة أو الظلم نتيجة تصرف ما ولكن التسامح من معالي الأمور.

 وكما يقولون: الغضب والعنف هي أسلحة الضعفاء المستسلمين، ومن أطاع غضبه أضاع أدبه، وأول الغضب جنون وآخره ندم، ويستمر الغضب فقط مع الجهلة والجهل والغضب يطفئ سراج العقل.

الغضب يعري حقيقة البشر والإنسان والغاضب يتعرى من محاسن الأخلاق؛ ليكشف السوء الذي فيه، فالغاضب لا يكذب في مشاعره وتصرفاته.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى