تدويناتتربوية

ويعلم ما في الصدور

قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾

﴿24 الأنفال﴾

  بستان ربيعي يتحول إلى حديقة قاحلة، بيت حل عليه الخريف وبعيد مهجور، تمر عليه الأحداث غريباً كأنه يتكلم لغة تجهلها البشرية، لا قانون يحكمه ولا شريعة، ونبضات وظيفية بصوتٍ دون حياة، غريب في الجوف تتسرب منه كل يوم عواطف وذكريات، كما تتسرب الرمال من بين قفصه الصدري. تحول لافت عن الآدمية إلى حالة هائمة بين الضياع والتشتت والفهم.

يصعب تخيل الرعب في العقوبة! أن ينفصل قلبك عنك وهو ينبض بداخلك، وتهتز نياط قلبك دون مشاعر، أن تستنجد بداخلك وتضرب صدرك مرات ومرات مثل غوريلا مكلومة خائفة مرعوبة، ويظل يلازمك الخذلان والضياع.

عقاب من نوع فريد على البشرية التي تجهل حتى رائحة دواء لعلاجه إذا مرض وتعب وتوقف نبضه، فكيف إذا حال شيء بين العبد وقلبه؟

من كانت الغفلة غالبة عليه وهو كرار الذنوب، ينظر إلى ما لا يحل، ويتعاطى ما لا يحل، ويأكل ما لا يحل، ويتفوه بما لا يحل، ويمشي إلى ما لا يحل، قليل الذكر، كثير الذنوب، فاجتمع عليه أسباب الغفلة، اجتمعت الغفلة من أطرافها فما حال ذاك القلب الذي صار صاحبه بهذه المثابة؟

لم يعد يفهم العبد في قلبه لا الحب ولا الإحسان، والرأفة والخير تبتعد أميالاً، لقد حيل بينه وبين القلب الذي قال عنه الخالق: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)، لتداهم الحياة المعاصي وتخترق العقل بعد غياب المُدافع الأقوى الذي سيغيب فجأة دون سابق إنذار. مرض يستنزف كل الطاقات ويخفي من الروح تفاصيل كثيرة ولحظة فارق أخيرة جاءت. ستتعفن الحواس لأن دماء الخير غابت في وريد العودة، وجفت شرايين الوعي.

الحجز بين العبد وقلبه مهلكة

ستتوقف أربعون ألف خلية عصبية بما تملكه من ذاكرة، وتجف هرمونات السعادة والتفاعل والحب والشوق في تيار الدم المتجه إلى المخ ليصبح طائشاً بهيمياً، ستعجز بينهما لغة فيها نوع من التخاطب والتنسيق، وستنقطع الكهرباء عن القلب كمدينة منسية مظلمة، علماً أن كهرباء القلب أكبر بمئة ضعف من كهرباء المخ‏، وطاقتها المغناطيسية تفوق طاقة المخ المغناطيسية بخمسة آلاف ضعف.  

ستموت الذكريات السعيدة والأحاسيس فيه ليتحول إلى حجر، وتضيع المَلَكات والمواهب والعواطف والمشاعر‏ والهوايات‏ والخصال‏ والسجايا، سيتغير النوم والطعام والسلوك وحتى الأخلاق ستتبدل، والروح ستنتزع من الإنسان قبل الموت!  

وإذا حجز -جل ثناؤه- بين عبد وقلبه سيضيع العقل في أشياء لن يدركها أو يفهمها، لم يكن للعبد ديناميكية إلى إدراك ما قد منع الله قلبَه عن عقله في إدراكه سبيل.

الذنب يحمله ذنبٌ آخر، تراكمات تُعمي بصيرة القلب وتحيط به بجدار من الرّان القاتم، والقلب يصدأُ من المعصية، فإذا زادت غلب الصدأُ حتى يصيرَ راناً، ثم يغلب حتى يصيرَ طبعاً وقُفلاً وخَتماً، يصيرُ القلب في غِشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انعكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذٍ يتولّاهُ عدوهُ ويسوقه حيث أراد. فقد أقفل عليه بالمعاصي واستحكم وثاقه يجره حيث يشاء.

وسيحشر في الجولة النهائية وقد تحجر قلبه وجف الخير فيه ليحاسب على ما كان…

قال رسول الله ﷺ قال:

(إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه.
وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه. وهو الران الذي ذكر الله كَلّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)

وصدأ القلب بأمرين بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين بالاستغفار والذكر. فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه.

فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًا ولا ينكر باطلًا.
وهذا أعظم عقوبات القلب.

الملجأ..

“قال تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يُصرّوا على ما فعلوا، وهم يعلمون، أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين” صدق الله العظيم.

الاستغفار يؤدي إلى تغيرات بيوكيميائية في الجسم؛ من بينها ارتفاع معدلات هرمون السعادة، حيث يشعر الإنسان بالطمأنينة وراحة البال، وأنه بحصانة الله سبحانه وتعالى. 

الاستغفار باب من أبواب الصحة النفسية، وعلاج حاسم يستأصل جذور الشر من النمو والتكاثف لتصير سداً يمنع منافذ الضوء، وكي ينجح العلاج فلابد أن يؤخذ على وجهه الصحيح، فمن الناس من يشترون الدواء كما كتبه الطبيب، ثم لا يفيدهم شيئاً بل ربما أدى إلى انتكاس يتضاعف معه المرض، وتقع الكارثة، والوجه الصحيح للاستغفار أن تعتقد أنه نجاك من شر محقق، وأنه فرصة هيأها الله سبحانه وتعالى حين علم ضعفك القلبي والنفسي، عليك أيها المسلم أن توازن بين نفسك قبل الاستغفار وبعده، كيلا تحاول الرجوع مرة ثانية إلى الخطيئة، ليكون الاستغفار منطلقاً لسلوك قلبي صحي جديد، كما يقوم المريض من دائه، وقد صمم على أن يحافظ على صحته كيلا يتعرض لأزمة مماثلة..

أما إذا كان الاستغفار نطقاً لسانياً لا يتغلغل إلى أعماق النفس، ولا يصاحبه العزم على التقوى، فهو عبث ساخر لا جدوى منه، فالتوقف عن الخطيئة هو علامة الاستغفار الصحيح.

وكفارة الخطيئة في الإسلام لا تحتاج إلى صراخ وعويل وتحميل مسؤوليات ضنك العيش والحال ولا إلى اعتراف لرجال الدين، فنظرية الاعتراف بالذنب أمام الله تعالى هي نظرية قرآنية لها آثارها المفيدة في النفس الإنسانية وليست نظرية نصرانية محرّفة.

كما أنّ الخطيئة لا تبقى معلقة على رأس المسلم طالما نوى على إزالتها والتخلص منها فلا مخلص منها ولا فرار. وباستطاعته أن يتوجه إلى ربه مباشرة نادماً طالباً المغفرة ليفتح الله بابه ويمنحه رحمته وعفوه. قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 110).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى