
يتميز الأطفال عادة بالتفاعل وردود الفعل المفاجئة، التي كثيرًا ما تلفت انتباه الكبار، وكأنهم لم يعايشوا طفولة أشقائهم أو أقاربهم، لا سيما إذا كان الأطفال أبناءهم، يصبح كل عالمهم تحت المجهر الأبوي، كل سلوك، وكل كلمة.
يمتلك الأطفال القدرة على سحبك إلى عالمهم، فنظرتهم للعالم تتجاوز الواقع، تختلط بخيالاتهم، ومشاعرهم، وبراءتهم، وقد صدق مَن قال أننا نعيش لأجلهم، ولأجل تأمين كل رغباتهم، وكأن العالم يتسع عندما نراه في عيونهم، إننا -بلا مبالغة- بحاجة الأطفال كما هم بحاجتنا.
لكن كم منا لاحظ أن سلوك الأطفال في السنوات الأخيرة تغير كثيرًا؟ بات الأطفال أقل كلامًا، أكثر صمتًا، أكثر عنفًا -أحيانًا-، أكثر تشتتًا، بل وأكثر انفصالًا عن محيطهم. (نعم، حتى الكبار، ولكن هذا نتحدث عن لاحقًا بإذن الله)
مَن منا لاحظ وعاش واحدة من هذه اللحظات؟ مثلًا:
- يُلح يريد لعبة أو ملابس أو شيئًا ما، صغير أو كبير، ثم لا يبتهج بالحصول عليه.
- يلعب بالشيء مرة ثم يرميه أو لا يبحث عنه مرة أخرى إلا بعد فترة.
- يكرر طلب الحصول على أشياء لأجل امتلاكها، أو لأن زملاءه أو مشاهير قنوات الأطفال يستعرضون!
- إذا ذهب في رحلة، أو إلى مدينة ألعاب، فهو لا يتحدث عما عاشه، أو عن أكثر الألعاب إسعادًا له، أو عن مواقف طريفة أو غير طريفة حصلت معه، لا يعبر عن أي شيء.
- لا يميل إلى اللعب في الساحة أو شرفة المنزل أو الشارع.
- لا يعرف ماذا يفعل إذا انقطع الإنترنت أو إذا انتهى شحن جهاز يملكه.
- لا يميل إلى تقدير الشخص الذي يمنحه شيئًا يريده، حتى لو كانا والديه! (غياب القيم)
- علاقته بالأشياء لحظية، تنتهي بالشيء بعد التعرف عليه.
- لا يقدر الهدايا التي يحصل عليها، ولا يُظهر سلوك انبهار أو مفاجأة.
- يلجأ إلى تكسير الألعاب بعد اللعب بها، انتهت رغبته!
- غياب وجود الهدف لفعل أي شيء. (لا مبالاة)
- ممارسة العنف والتنمر.
هذه السلوكيات مؤشرات للانتباه، فليس مطلوبًا منا أن نمنح بلا حدود، ولا أن نعاقب لأجل العقاب، المطلوب أن نتوازن بين المنح والدلال، بين العقوبة والتغاضي، فأن تلبي كل رغبات طفلك لا يجعل منك أبًا أو أمًا نموذجيًا.
عدم استخدام الرفض، عدم قول “لا” بين المرات العديدة لقولك “نعم”، يعطي الطفل تصريحًا بأن يواصل أسلوبه في الطلب، فهو بالتالي يغذي رغبة التملك، ويعظِّمها ما دام هناك ما يساعده على ذلك، بل هو في عالمه يظن أن ما يفعله الوالدان هو واجب لا يستحق التقدير، أو أن التقدير عليه “واصل”!
نحن في تربية أبنائنا أمام خطرين:
الأول: خطر العادة -التعود-: فالطفل المعتاد على امتلاك كل جديد يصل إلى مرحلة لا يستمتع بحصوله على أي شيء، فمتعته متمثلة في الامتلاك لا أكثر، والطفل الذي اعتاد كسر الأشياء للحصول على جديد، سيبقى هذا أسلوبه المعتاد؛ كسِّر لتُكافأ، والطفل المعتاد على مقارنة نفسه بأقرانه أو بما يشاهده على الشاشة -تلفاز أو جوال-، سيبقى يقارن نفسه بغيره خاصة إن وجد هذا السلوك لدى أحد الأبوين أو لدى الأشقاء عندما يقارنون أنفسهم وأهل بيتهم بأبناء العم، أو أبناء الخال، أو الجيران، أو المعارف.
العادات السيئة والتي لا ترضينا ولا تسعدنا التي تربى أبناؤنا عليها؛ نتحمل وزرها فيما بعد، وهذا يعني أن أي فعل يفعلونه لا يجب أن يمر مرورًا عابرًا، لا يجب أن يقابَل بالضحكات، والنكات، بعض الأخطاء لا يجوز التجاوز عنها، التكسير، السب، السلوكيات المرتبطة بشكل الطلب، المقارنة مع الآخرين، كلها أشياء يجب لزومًا الوقوف عندها.
الثاني: خطر الأجهزة الإلكترونية: التي تجعل الطفل يستخدم اللمس بفاعلية، والبصر، والسمع طوال الوقت، ولكنه لا يساعده على التفاعل اللفظي، نعم، يحفظ سلوكيات، يخزن مواقف، ألفاظ جريئة، عبارات خاصة بالردح، عنف، ضرب.
بالتالي هذا الطفل لا يستخدم اللغة ليعبر عن نفسه، وعما يشاهده، لا يمنحك فرصة لتصحيح أفكاره، ولا يمنحك فرصة لتقويم لسانه، ولا يمنحك فرصة للغوص في مشاعره أو عقله الباطن.
بل بعض الأطفال يلجؤون إلى لغة غير مفهومة تعتمد على الأصوات في التعبير، يقلدون ما يرونه عبر الشاشات من سخافة لأطفال ربما في نفس أعمارهم.
مع غياب التوجيه نحو الهدف، وغياب المنظومة القيمية التي يراقب الآباء سلوك أبنائهم وفقها، وغياب الحرص على استخدام النطق كلغة تواصل مستمرة طوال اليوم، وغياب أخلاق مثل: الصبر، والقناعة، والرضى، بالإضافة إلى طغيان عالم الأشياء على حياة أبنائنا؛ فإننا فعليًا نؤسس لمجتمع من الأطفال الغرقى في الطفولة، مرتبطون بالأشياء، بعيدون عن عالم الأفكار.
فإذًا وكما أشار مالك بن نبي فإن أي فساد في العلاقة مع الأشياء يتولد عنه اضطرابًا في الحياة الاجتماعية وشذوذًا في سلوك الأفراد.
فإذا كان أي من أطفالنا يعاني من أحد السلوكيات السابقة فعلينا أن نستدرك في تربيته، ولعلي قريبًا أكتب كيف نربي أطفالًا غير مشتتين، وكيف نستدرك على ما نحن فيه.
28 صفر 1444هـ / 24 أيلول 2022مـ