اشراقات تاريخية

اهتمام الإسلام بالعلم والمتعلمين

كتب: عبد الرحمن نجم

لَمَّا كان عهد النبوة الخاتمة، الناسخة الديانات مبدوءاً بـ”اقرأ” (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ثم مَشْفوعاً بذكر فضل الله الذي عَلَّم بالقلم، عُلِم أن هذا الاستهلال القرآني الأول من نوعه إلى العالَمِين -بعد انقطاع دام لأكثر من خمسة قرون برفع عيسى بن مريم- إنما يخاطب في بعض وُجُوهه الأمة العلمية التي تتخذ العلم سبيلاً لنهضتها الدينية، وإذا استقامت هذه الأخيرة للناس، واستوت على سُوقها نهضت بها الإنسانية جمعاء.

إن القرآن الكريم لو كان مقتصراً في إعجازه على بيانه ونَظْمه وحسب، لَكان عرب اليوم أولى من الغرب به؛ لأنهم الأقرب رُحماً إليه لساناً، ولكان أيضاً عرب قريش وأهل ذلك الزمان أولى الأمم به دوننا؛ لانتهاء عهد خطاب الفصاحة في الكلام بيننا، ولكن هذا فهم ناقص مجزوء لا يُبنى عليه منطق، ولا يَستشهد به عقل، ولا يَعتصم به رأي.

والحق أن قرننا هذا وما سبقه من قرون عشرة خالية لا يُختصر إلا في كلمة واحدة هي “العلم”، فإذا ربطنا هذا وصَدْر الآيات المُنزلات “اقرأ”، أدركنا أن “الدرس القرآني” إنما كان يُهيئ المؤمن إلى هذا الزمان بدعوته إلى “اقرأ”، ليَجِدَّ المؤمن في المعارف والعلوم التي تُبلِّغه خشية الله (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ).

والكنيسة إذ حاربت العلوم وتَداولها والقول بها، ومارست أبشع أشكال التقييد العقلي قبل الفكري، مُحرِّمة على أتباعها كل ما سوى الإيمان، فإن القرآن سَلَك مع الناس منهجاً عقلياً يدعوهم فيه إلى النقد والحوار إنْ وجد، بل حثهم على طلب العلم لأنه مَدعاة لزيادة الإيمان به وبما فيه.

والمتدبر لآيات القرآن الكريم يلحظ حضه على طلب العلم، والطرائق المؤدية إليه؛ وذلك بدعوته الناس إلى إخضاع جميع ما في الكون للنظر والتأمل والتفكر والتعقل والتدبر، وهذه الأمور كلها تُكسب الإنسان علمًا بحقائق الوجود.
فأنت حين تقرأ قول الله تبارك تعالى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) تستدل بأن الفلسفة القرآنية تجعل العلم أساس الإقناع والمناظرة والمجادلة والحجاج العقلي.
والإسلام حين يرفع شأنه العلم، فإنه بالضرورة يرفع شأن المتعلم، وليس شيء أدل على هذه المنزلة الرفيعة للمتعلمين من قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
ومما ما جاء في الحديث النبوي الشريف عن فضل العلم والعلماء قوله صلى الله عليه وسلم: “فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم في ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».

وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: “العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم (أي: العلماء) يحفظونهم من نار الآخرة».

ولكن تبرز هنا شبهة عويصة، حُقَّ للعقل الحديث سؤالها، وهي تَوَهُّم التعارض في آي كتاب الله مع بعضها بعضًا من حيث إنه حض الأمة على العلم وطلبه، وعظَّمه غاية التعظيم في مواضع كثيرة، بل إن “الدرس القرآني” الأول كان (اقرأ باسم ربك الذي خلق) الذي يُفهم في بعض وجوهه أنه يخاطب الأمة العلمية التي تتخذ المعرفة سبيلًا لنهضتها الدينية والدنيوية، ولقد ترى القرآن أكثر من استعمال تضاعيف أفعال “عَقَل” و”فكر” (يعقلون، يتدبرون، يفكرون ..إلخ) وكلها في معرض الإشادة بعقل الإنسان.

ثم ترى القرآن الكريم يقرن النبي صلى الله عليه وسلم في غير آية بـ «الأمية» (الذين يتبعون النبي الأمي..)، ويصف الأمة التي أُنزل إليها بـ «الأميين» (هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم..) و(ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل..) وفي لفظتي «الأمي» «والأميين» تقليل للشأن، وحط للقدر كما يدل عليه سياق الآيات العام.
إذًا؛ فكيف يمكن للعقل الحديث أن يفسر هذا الآيات تفسيرًا يطمئن إليه، تزيده بربه إيمانًا، دون أن يضطر إلى قَبُولها كما هي تسليمًا بها، وهو يقرأها تحضه على العلم مرة، وترميه وأسلافه بالجهل تارة أخرى؟!

والحق أن هذا التَّوهم المَسُوغ راجع إلى غَلَبَة الظن أن تفسير معنى «الأمي» و«الأميين» في القرآن هو الجهل أو عدم معرفة القراءة والكتابة، والأمر ليس على ذلك؛ فلقد قال العلامة د.ناصر الدين الأسد في كتابه «ألفاظ من القرآن الكريم»: «لم أجد هاتين اللفظتين (الأمي والأميين) فيما اطلعتُ عليه من شعر الجاهلية، ولا من سجع كُهانها وأقوال خطبائها وحكمائها، وقد ذُكرتا لأول مرة في القرآن الكريم، وهما من كلام اليهود المترجم إلى العربية؛ ذلك أنهم يقولون عن أنفسهم إنهم شعب الله المختار، وإن مَن سواهم «أمم»، والنسبة في العربية إنما هي إلى المفرد؛ أي إلى «أمة»، وهكذا فإن النسبة إلى «أمم» هي «أُمي» و«أميون»، وهي في لغتهم «جوييم» أو «غوييم»، فهم يقولون: (ليس علينا في الأميين سبيل) أي: الذين هم من غير اليهود من الوثنيين والنصارى والمسلمين».
وانتهى الأسد إلى أن قال في بحث ضَمَّنه بحوثًا قَيِّمة لألفاظ قرآنية أخرى: «وليس معنى «غوييم» أو «الأميين» الذين لا يقرأون ولا يكتبون، وكذلك فإن (الرسول النبي الأمي) هو الرسول النبي الذي هو من هؤلاء الذين هم من غير اليهود؛ لأنهم كانوا يقولون إن الله لم يبعث نبيًا من غيرهم، ولا يعني «الأمي» هنا الذي لا يقرأ ولا يكتب، وإن كان عدم معرفته بالقراءة والكتابة قد نزلت به آية أخرى هي: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تَخُطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون)».

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى