تدوينات

كانون الأول .. عبق الحرية

على وقع أول اضرابات الانتفاضة المجيدة الأولى طرقتُ باب هذه الدنيا، كانت الأيام تمضي بطيئاً قريباً من أسبوع عن حدثٍ عظيم لا يقل اهمية من الحدث الآخر مطلع كانون، يفتح نافذة أمل مشرعة لميلادٍ طالما كنتُ فرحاً بارتباط القرب منه ولو كان الفارق أسبوعاً من الزمن ومداداً من نور لا تدركه الساعات ولا الأيام.

مع انبلاج فجر كانون كانت الأزهار تتسابق لترتوي من معين عطاءٍ تدفق بهام الرجال وارتوى بعرق البذل والفداء، كانت الأوراق الخضراء براعم تُكمل انغماسها في تربة الدفء المخضّب بدماء الأوّلين ممن رسموا فوق هذا التراب خارطة الوطن على امتداد خطوط الطول والعرض والوفاء، فأسرجوا الزيت قنديلاً يضيء ليلها الكئيب.

يجيء كانون والعيون صوب فارس هذا الشهر ترنو، على صهوة جواده يُسابق الريح، للرابع عشر من كانون كانت الأعين تختصر لهفة العطاشى إلى شربة ماءٍ في لحظة يأسٍ وظمأ تداخلت في طياته الكروب وادّلهمّت في لياليها الخطوب، فتبسمت أفئدة المكلومين المنافحين عن أرضهم وعن دعوتهم، عن شجرةٍ مباركة بات غصنها يافعاً يانعاً، كلما لاح بريق الشمس يغازل خضرتها أشرقت بأصلها الثابت وفرعها الذي يطاول عنان السماء باسقة.

ما أن يجيء كانون فترى الأرض مدّت ذراعيها لتستقبل ذكريات حافلة بالعطاء كما المطر، جسّدتها نشأة الفارس الأخضر الذي أعاد لهذه الأرض دماً أحمرَ يسري في عروقها وغرس في ربوعها فرساناً آثروا إلا أن يتخذوا جبالها سكناً تحتضن جهدهم وأحلامهم وآمالهم، وعاد للقلب نبضاته الحرّى والحياة.

تتزاحم في مخيلتي عند اقتراب نهاية كل عام كثير من الصور أكثر ما ترتبط بالأرض والوطن وكثير من الذكريات التي تتركها في النفوس،

إشراقات مضيئة يوم كانت تتزيّن الجامعات ومسارحها بالرايات وتعتلي أسوارها صور الشهداء، ويقف الملثمون يجوبون الشوارع والساحات، وتصدح “الغرباء والشهداء” ألحاناً تُنقش في ذاكرة ووجدان السامعين، أنغام عز وافتخار، فللأذن ملاذها بين موجات صوت الثورة وللعين سحرها وهي تحتفظ بصورٍ نُقشت بأيدي مهرةٍ رافقت فصيح القول والعمل على بساطته ونعومة أظفاره يومها.

ثم تلاحقك طرقات الأبواب بضربات جنديٍ أخرق يجيء آخر العام مرات ومرات، واحدة لينتزع أفراد العائلة ليزجّ بهم في غياهب السجون وآخرون ينقلون إلى مرج الزهور في ظلام ليل كحيل أليل، ويتكرر المشهد ويُعاد طرق الأبواب فجر يوم عيد تزامنت مع ذكرى انطلاقة انتفاضة الحجر، كان يصرّ الاحتلال دوماً على أن يضع بصماته المقيتة على جدول هذه الحياة المهترئة. ويمر كانون ليلاحقك الكرب في أروقة سجن غابت عنه معالم الآدمية إذ لا تجد ما يقيك برد كانون ولا زمهرير سجن عوفر حتى أرخت الأيام لوحات من الحزن مكررة، فيشتعل لهيب النار في “حرب الفرقان” ويطغى غدر الاحتلال على المشهد الكئيب نهاية العام 2008، فما كان ينقصنا إلا بعض الوجع!!.

يفخر كانون كما لو أنه بطل حكايتنا يوم ضمّ بين جوانبه يوم ميلاد أقحوان القضية ولهيبها ليغيظ أعداء الله، حاربوا تلك البذرة فما أفاقوا إلا على خراب بيوتهم وقد طال الغصن وفرعه وامتدت جذوره ضاربةً حدود الوطن من الشمال إلى الجنوب، تخرج الجماهير مبايعةً كل عام زحوفاً إلى حيث تهوى وتعشق، تأسرك روح الفداء تحكيها ملامح المنتصرين في جولات العز المترامية على طول قطاع الفخار وضفة الكرام.

يرسم كانون شهر انبثاق الخير وإشراقة شمس الصباح المعطّر بالندى ورائحة التراب وقد حطّت رحاله الفارقة في ذاكرة الثورة المباركة صور عزّ مشرقة ملامح يطل من خلالها إلى حيث معاني النصر والتمكين وقطف بذرة نما في عمق تربها إحدى وثلاثون غصناً، كل فرع فيها بألف ألف زهرة، ولكل زهرةٍ ربيعٌ وإشراقة وحكايا ترويها أيام الثائرين الماريّن على كانون مرور العاشقين لفجرٍ لا بد آت.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى