في ضيافتنا

زوجة نشأت الكرمي في حوار خاص

سبع سنوات عمر الغياب عن الوجود إلى عالم الخلود، ليستحيل شمسًا لا أفول لها، وحبًا لا انقطاع له ببرعم يكبر بدفء العاطفة الأولى خلف قضبان السجن، وفي ليالي المطاردة، وبالنور المنبثق في لحظات تدفق دم الشهادة أول الأمر وآخره، نشأت الكرمي الشهيد المهندس الذي قضى العمر بين محراب العبادة والجهاد في سطور مختلفة مع زوجته؛ دينا السعيد في حوار خاص لإشراقات.

بداية وهو السؤال الذي يتردد صداه في نفوس الأحبة: ما الأثر الذي تركه الشهيد في زوجته وابنته؟

من أبرز الآثار العزة والفخر بالمقاومة وأهلها، والمنافسة على فعل الخير وتفعيل المتروك والمهجور من الواجبات، فقد كان لتوقيت العملية الجهادية أثرٌ بالغٌ في تعليم المبادرة إذ جاءت العملية في الوقت الذي كانت فيه الضفة قد ألجمت بلجام الملاحقة الأمنية الحثيثة من السلطة والاحتلال على حدٍ سواء، وقد تعلمت من الشهيد رحمة الله عليه الغيرة على محارم الله فلم تكن تمر عليه الأخبار مرور الكرام ولا الصور اليومية والمشاهدات في الشارع والجامعة إلا وقد أثارت فيه القلق وأخذ يفكر بعمق ما الحل وما السبيل للخلاص.

حدثينا عن أجمل ذكرى ترتبط بذاكرتك عند الحديث عن الشهيد نشأت الكرمي؟
ذكريات جميلة كثيرة لن أنسى ما حييت عندما دخلت المنزل أحمل بين يدي حور العين بعد ولادتها، لقد انتظر بفارغ الصبر أن أضعها على السرير حينها لم يبقَ جزء من جسدها الصغير دونما تقبيل وضم، أخذ يحدثها كأنها صديقته، وقد حرص أن يسمعها القرآن كل القرآن بصوته وقد فعل قبل أن تتم شهرها الثالث.
ولن أنسى ما حييت لحظة خروجه من المنزل يوم العملية الجهادية فقد كان متلأليء الوجه بسام الشفاه تعلوه الهمة والحيوية، ملأ المنزل تكبيرًا وتهليلًا، سألته عن السبب فقال:
“ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب “، فاليوم أسعد أيام حياتي أنا في طريقي للأقصى.
أوحى لي أنه سيذهب للاعتكاف وبعد سماع الأخبار فهمت مغزى كلامه.

وكيف سأنسى يوم خروجه من السجن بعد اعتقالٍ دام خمس سنوات أسأل الله أن يجعله في ميزان الحسنات وأن يمن على جميع الأسرى بالفرج القريب بصفقةٍ مشرفة تعز المسلمين.


ما هي أكثر اللحظات التي افتقد دينا فيها الشهيد نشأت الكرمي، زوجًا وأبًا؟
بالتأكيد يمر على الإنسان لحظات يُحب أن يصاحبه فيها الأعزاء، مثل الأعياد ومناسبات النجاح والمناسبات الاجتماعية المختلفة، بصراحة أفتقد نشأت بطريقة مختلفة فقد شهدت رجلًا عابدًا زاهدًا عالمًا من طراز فريد.
أفتقده عندما أقرأ في القرآن وقد كان حافظًا متمكنًا يختم كل ثلاثة أيام في رمضان وكل ستة أيام في سواه.
أفتقده عند أذان المغرب يومي الاثنين والخميس فلم يُفطر في منزلنا يومًا من هذين.
وأفتقده في قيام الليل إذ لم يترك قيام ليلةٍ واحدة حتى ليلة الزفاف.
وأفتقده عندما أرى العاملين في الشوارع وقت الظهيرة إذ كان يجلب لعمال البلدية الماء البارد شفقة وتحنانًا عليهم.

ما يواسيني أن اللقاء في الجنة أبدي سرمدي في ظل العرش.


كيف هو نشأت الكرمي بالنسبة لطفلته حور العين؟
المجاهد البطل القسامي الذي ضحى بحياته لأجلها كي تحصل على مكانةٍ مرموقة في الدنيا والآخرة، هي تقول:
لقد اكتشفت أن بابا مهم
وتسأل:
لماذا اختارك أنت أمًا لي؟”
وتقول أخرى:
شكرًا يا ربي على بابا
 ما أكثر الصعوبات التي تواجهها زوجة الشهيد في المجتمع الفلسطيني؟ وهل لا زال التضامن الاجتماعي موجودًا معها؟
الصعوبات تختلف من إنسان لآخر حسب البيئة وحسب الثقافة والفكر، أعتقد ما زال التضامن في مجتمعنا مع أسر الشهداء موجود ومغروس في وجدان الناس فعدد الشهداء كثير والجرح في الكف والحبل على الجرار ما زال الاحتلال جاثمًا على صدورنا، لكن سأسمح لنفسي بالحديث عن مجموع أهالي الشهداء:
بالتأكيد تربية الأبناء والبنات في ظل غياب الوالد ليست بالأمر السهل، ولم يعد كافيًا دور المنزل في التربية، غياب المؤسسات التربوية والترفيهية الملتزمة ألقى بظلاله على الأهالي وضغط على الأمهات، حتى أبناء الأسرى معاناتهم واحدة.
عداك عن الموضوع المادي فقلة الموارد المادية تؤثر على استقلالية الأرملة وأبنائها مما يجلب الكثير من المشاكل الناتجة عن التدخلات غير المدروسة.
وأخيرًا الإشكالات الخاصة بزوجات الشهداء فيما يتعلق بالزواج مرة أخرى فهو موضوع شائك يعتريه الكثير من اللغط وعدم الوضوح وقلة الجرأة بفتح حوارات مجتمعية حوله، ما يناسب فلانة ببقائها على أبنائها لا يناسب فلانة والعكس صحيح.

أعتقد أن هذه المشكلات الثلاث لا تحلها إلا الحوارات الدينية والثقافية وتفعيل دور المؤسسات كل في مجاله.


 كانت هذه محطة سريعة الانقضاء في ضيافة حكاية بديعة التفاصيل لنشأت ودينا وحور العين، يحتمها واجب الوفاء، والبحث عن قبس هدى واقتداء، فالشهداء ليسوا محطة عابرة في ذكرى الشهادة أو البطولة، ولكنهم أحياء فينا يُبعثون كلما أردنا الاستظلال بهم، لارتواء يرفع بعض ألم الحياة العابرة.
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى