
درجت العادة عند البعض على تسمية من يُخالف فكرته الأساس على أنّه سابقٌ لعصره، وذلك أنّه يُسخّر فكرته بمبادئها ومعاملاتها في خدمة الغريب الذي يأتي به، وربما كانت تلك الأفكار الناجمة عن مخالفته جالبةً لكثير ممن يشاطرونه التصوّر الفكري، غير أنّ السابق لعصره وفريد زمانه في هذا العصر مصطلح لم يعد على تعريفه السابق، حيث كان هذا الاصطلاح يطلق على من يسبق علماء عصره في الطرح ويأتي بتأويلات قريبة جدّاً من النص الأساس الذي يعالجه، فيكون قد سبق عصره من ناحية التصور ومن ناحية استنطاق الفكرة بما يخدم الإنسان في عصره ومن ثمّ الإنسان الآتي في قابل الأعوام والعقود والقرون.
وبالاستقراء نجد أنّ من يُسمّون في عصرنا بسابقي عصرهم، ليسوا على الحال التي وصفناها لاحقاً عن سابق عصره، بل هم على حال مخالف تماماً لمن ينطبق عليهم المصطلح عبر التاريخ الطويل، وسنحاول فهم هذا الخلل من خلال بعض الصفات التي نظنّ أنّها أدّت إلى ظهور هذه الشريحة.
أوّلاً: ربما يكون هناك خلل جزئي في الفهم لدى هؤلاء، وهذا نجده في تفكيرهم وما ينتج عنه من كتابات، مثل الذين ينجرّون وراء دعوات “بني علمان” والحداثيين والتنويريين في مسألة تجديد الخطاب الديني، ولو سألتهم عن المطلوب من هذ1 الشعار، اشتغلوا بسؤالك وناقشوا حقك في السؤال من عدمه، بمعنى أنّ هذا الفهم الجزئي والضحل نقل هؤلاء من مناقشة الأفكار إلى الاحتجاج على الأشخاص، وبالتالي لن تجد عندهم جواباً شافياً ولا مقنعاً لسؤالك الذي تطرح، ثمّ إذا حدثتهم عن فكرتهم الأساس ومدى ارتباطهم بها وجدتهم يعدون العيوب – من وجه نظرهم- وأنّهم سدنة الحفاظ على الفكرة من أبنائها المتشددين أو من يصفونهم بالمنغلقين، لذلك تجد من يحملون وصف السابق لعصره، يأتون بالعجب العجاب، ويكونون في النهاية أخطر من المخالفين المعروفين على الفكرة والدين والبشر.
ثانياً: الرغبة في نيل الإعجاب، وهذه لا تبعد كثيراً عن الوصف الدقيق في تاريخنا للمتقوّلين والمفترين، حين قالت العرب “يُغربُ ليُعجب”، وقد رأينا من لوى أعناق النصوص المقدسة الشريفة ليظهر بمظهر المتقبّل للآخر، وهو بذلك يحمل الباطل أكثر من أهل الباطل أنفسهم، فلك أن تتخيّل مسلماً (ربما هنا هو مسلمٌ بالمسمّى فقط) يقف على منبر الباطل ويخاطب جمهور الباطل بكلمات الحقّ الخالدة مخبراً إياهم بأنّ لهم – على باطلهم – مكاناً في معسكر الحقّ، بل يذهب أبعد من ذلك حيث يُخرج بعض أهل الحقّ من معسكر الحقّ، ويشارك في وصمهم بالإرهاب والتطرّف والافتراء على دين الله تعالى، وهذه الحالة من الاستنواق ليس لها تفسير إلّا الرغبة في الشهرة ونيل الإعجاب دون أن يكون هناك شيءٌ محرّم أو ممنوع لدى سابق عصره، فرأينا من يتخلّى عن كون الدين هو المرجع الأساس في دساتير الدول الهشة في عصرنا، ويقبل بالدولة المدنية على علّاتها، مع أنّ ذكر الإسلام كمرجعية عليا للأحكام والتشريعات في دساتير الدول الهشة ليس فخراً، وتحديداً عندما تكون الدولة علمانية فعلياً، وتحارب الدين وتشنّ عليه حملات التشويه المتلاحقة، لكن عندما ينصاع الداعية لرغبات الحكومات الهشة فهو يسهم في تدعيم أركان الباطل، فهو على الباطل وإن صفق له الآلاف، وإن برّر له غيره من الدعاة بحسن النية وصفاء المقصد، فلقد جنى هؤلاء جناية عظيمة، فكيف للحقّ أن ينزل عند ترهات الباطل؟ بل كيف للحقّ أن يقبل بتشويه نقائه بوحل الباطل؟، والحقُّ بريءٌ من “سابق عصره” الذي يريد الشهرة وإعجاب معسكرات الباطل من خلال الافتراء على دين الله تعالى.
إذاً، يمكن القول أنّ بعض من يوصفون ب “سابق عصره”، ربما يكونون مرضى نفسيين، لم يتغلغل الإيمان بمنهج الحقّ في قلوبهم، فرضوا أن يكونوا مطيّة سهلة القياد للباطل، وسهلة القياد لأهوائهم، وإن كنّا نُحمّل الباطل في كلّ صوره مسؤولية ما نحن فيه، فقد شهد العقد الأخير ظهور فئة مسترزقة من المتدينين، الذين زادوا الطين بِلَةً، فقد أظهروا نوعاً من التدين الخافت، والتدين المجامل للباطل، فلا يدري المرء من أين لهم الجرأة على هذا الافتراء؟ وكيف طاب نفوسهم أن يخونوا أفكارهم ومبادءهم الأصلية؟
فالمطلوب من الدعاة ألّا ينزلوا على رأي الفسدة، وألّا يجاملوا الباطل مهما كانت ظروفهم الموضوعية والذاتية، وألّا يسمعوا للتبرريين الذين يرددون في كلّ حين “أهلُ مكة أدرى بشعابها”، فنحن في عصر تقاربت فيه الأقطار وتباينت فيه الأفكار، ومن الممكن أن تدفع ثمن موقف لك تناصر فيه إخوانك الإيغور وأنت في الكيان الهش الذي يسمي نفسه دولة، بل الداعية الحقّ قد يعرف شعاب القضايا العامّة أكثر من أهلها، فلا صمت عن مفتات ولا قبول لرأي مفسد، والقيم التي يُفاخر بها “سابق عصره” ليقبله معسكر الباطل، لا تعني شيئاً، فكلّ إنسان خلا المسلم مسموح له فعل وقول ما يريد، ولكنّ المسلم محرومٌ من حقّه في التعبير والتفكير والاعتقاد، وتلك حقوق لا تُنال بالنزول على رأي الباطل وقبوله، بل هي حقوق فطرية للمسلم وغيره، ولا مجال إلّا لانتزاعها انتزاعاً، وسوى ذلك هو قبول بواقع يزداد استفالاً يوماً فيوم، ومن قبل أن يكون صوت الباطل أعلى من صوت حقّه فلا يلومن إلّا نفسه.
] واللهُ غالبٌ على أمْرِهِ ولكنَّ أكثَرَ الناسِ لا يعلمون[