المسير (الجزء الثاني)

ويخبرهم الأب أن صديقه الشهيد أحمد- وقد سمى ابنه على اسمه- كان في عتمة ليل المخيم، والنجوم تطل خجلة من بين أسلاك الكهرباء المتشعبة في كل اتجاه، كأنها تحمل همومهم إلى كل حارة، إلى كل ضمير؛ لتضيء بقايا الأمل وتزاحمها بقايا الأعلام الممزقة والرايات الملونة التي كان يصنعها، ويوزعها في كل اتجاه وحارة وزقاق.
كانوا يستيقظون على انتفاخ عيونهم من البكاء، بكاء الألم والقهر، أم بكاء الغاز المسيل للدموع، كانت بيوت الجيران لا ترفض أن تتكئ عليها بيوت الآخرين الممتدة إلى الشارع لتستند عليه، وأبوابها دائماً مفتوحة لكل ملاحق من دوريات الاحتلال، ولتكبر بيوتهم في أرض لا تعرف المصالح، فقد كان من يحبهم يبحث عن همّهم قبل مصلحته.
البقال: “كانوا صادقين، منهم معتقلون وشهداء ومرضى وحتى معاقون لأنهم صدقوا مع أنفسهم”
في ليل المخيم، وعند سكون الأضواء، كانوا يشقون عتمة الليل، منهم مُطارِد لدوريات الاحتلال، ومنهم مناج ربه، وصارخ في ألمه معبراً عن مشاعره، أو فقير يحفر بكلماته ماضي بيارات الوطن السليب، بما فيه من كنوز أو حتى مصائب. كانوا وقتها عاطفيين جداً، والحياة عقلانية بشكل مذهل.
ويتابع الأب: أتذكر أن شيخ الجامع يوماً ما، ومن على منبر يوم الجمعة قال لنا:
“من السهل أن نسير في الاتجاه المضاد، وأن نخالف. ومن السهل أن نتشبث بفكرة أن الآخرين ينبغي أن يطيعوننا
ومن السهل ألا نكون مخلصين، وننهمك عبثاً في الجدال واللغو الباطل. لكن تأكدوا سنعيش على هامش الحياة بلا قيمة أو فائدة.”
وهذا ما حصل، كثيرون قبلوا لأنفسهم أن يسيروا في الاتجاه الخاطئ، وخالفوا الكل وجادلوا وخاصموا، ولكن للأسف حتى هامش الحياة استصعب عليه قبولهم.
ولم ينس البقال في زحمة الأحداث ونشوء النظرة التحررية، وتأرجح الواجهة الإسلامية بين وطنية بحتة، أو إسلامية خالصة، أن عزة المؤمن في مسيرته ليست بغياً ولا عدواناً، وليست هضماً للحق ولا ظُلماً للإنسان، وإنما هي الكرامة بأبهى صورها.
ليتفق معه الأب بأن لا تعارض بين العزة مع الرحمة. وكبرياء المؤمن أن يأخذ الموقف في نصف كلمة، ألا يكرر الهزيمة، وألا ينزع ثوب جهاده، حتى لا يراه عدوه عارياً أبداً.
ليفهم منهم أحمد مستوضحاً أن هناك أهدافاً وطنية تجعلنا عراة أمام حقوقنا فالإنسان عليه أن يحمي غموض أهدافه كما يحمي أسراره الخاصة، وأن يسمو بروحه، حين يطفو خصمه بجسده، وأن يتواضع بكبرياء لأبناء أرضه الذين عقّوا عشرتها يوماً ما.
فأبوه يرى أنهم برعوا بصنع وطن مليء بالأكاذيب وتشويه الحقائق، صنعوا دويلة تغلب فيها المصالح على الحقوق، كانت طاحونة شر بين مسؤول ومسؤول، يبرعون في تزيين السرقة والواسطة والمحسوبية، لا رادع أخلاقي ولا نظامي ولا ديني، كانوا فساداً وإفساداً كمكب نفايات يزداد اتساعاً.
لا تنسوا ونحن في قلب المنعطف-قال البقال- “هناك بقعة عزيزة من وطننا يُـداعبها فقط نسيم البحر ويقترب منها مواسياً جسدها الجريح مع كل موجة. حاولوا كسر إخوة لهم هناك، حاصروهم وجوّعوهم.”
كانوا وما زالوا بمثابة جرس منبه يوقظ فيهم شيئاً بدأ يتلاشى، من حاولوا خنق تلك البقعة كانوا فئة غير متسامحة، ولا تقبل إلا نفسها على واجهة الأحداث، ومنهم أشخاص فاجرون بسياستهم كما بخصومتهم، يجدُ الواحد نفسه أمامهم فريسة للتبرير والتوضيح، توضيح ما لا يحتاج إلى التوضيح، محاولاً إفهام من يأبى أن يفهم؛ لأنه اعتاد التلقين، والتعبئة كوعاء أو كما نسميه “شِوال”.
كعادتهم -قال الأب- وكما يُعرفون، كانوا للأفعال منكرين وللأقوال مستنكرين، لديهم عقدة الطفو على سطح الأحداث، يُغلّفهم اعتقاد الصواب وسمو المبدأ، متناسين أنهم أساس كل مصيبة حصلت.
هل تذكرون- قال الأب-: “عندما زارنا عمك ليلة منع التجوال، وكان يحمل بيده قصاصة ورق تتحدث عن الموت في سبيل الله، وأن تكون شهيداً، ولكنها تؤكد في سطور أخرى أن معالم الحياة في سبيل الله أصعب بكثير من تحقيق الموت في سبيله، تجادلنا كثيراً في الحياة والموت، وشربنا قهوة أكثر مما تكلمنا في محاولة منا للتركيز.
فالخلاصة يا أبنائي قال البقال: “أن تبقى راسخ القدمين في معركة الحياة اليومية، والناس يميلون حيث مالت الحياة، أن تبقى كالجبل الأشم ثابتاً على قيمك ومبادئك في وقت يأكل الناس ويشربون بمبادئهم وقيمهم التي لا تعرف ثباتاً، فهذا أصعب بكثير من الموت في سبيل الله في زماننا.”
أما قناعة الأب لا تخالفه كثيراً: “أن نجوع ونعرى ونتشرد في برد الشتاء أو تلفحنا حرارة الصيف، أو تقرصنا شدة الحاجة، ولا نتنازل عن معتقد أو مبدأ. أو حتى شبر من صحراء قاحلة.”
واستطرد أحمد: أن نقول كلمة الحق في وقت يتغنى فيه الناس بإنجازات القائد، ويغازلون الباطل، كان هذا أشق على النفس من تلقي رصاصة في الصدر.
الأب: يومها قالت لي جدتك، وهي تستدعي ترنيمة من زمن البلاد عندما خاطبت جنود الاحتلال:
“قد حاولوا قبلكم… ظلّـوا زمناً وعادوا بلا نتيجة”
البقال: “كثيرون هؤلاء الذين حاولوا قبل الاحتلال”
يومها قلت لعمك: لا تناقشني بأمر تنظر إليه بعقلك فقط، وأنظر إليه بعقيدتي، وقبل أن نستسلم فكر، لماذا تماسكنا كل هذه السنين؟
تبسم البقال معلقاً: إن مجرد الوجود في المخيم هو مدرسة بحد ذاتها، حتى لو كنت أميّاً، فما تراه عيناك يطبع قضية في قلبك، فنحن لا نخسر بالمواجهات الكبيرة الحاسمة أكثر، بل تراكم الخيبات القيادية تجرعنا الهزيمة.
الأب: نعم، جاء لقضيتنا ورثة أكثر جرأة من أسلافهم للتصرف بالتركة؛ لأنهم في بداية مستقبلهم، فعدم الإخلاص هو محاولة للهروب بكل ما تستطيع الحصول عليه، بمعنى آخر لصوصية من نوع فريد.
البقال: كان أولئك الحالمون بالدولة يعيشون بأفكار مشروع شخص آخر وحياتهم رهينة له، وعواطفهم الوطنية اقتباس ملوّن من علم على سارية خشبية، تزين لافتة دولة أهدتها لهم هيئة أمم لسنا فيها.
إذن من أصعب الحياة في سبيل الله؟ أم الموت في سبيله؟
أدرك أحمد وفي نهاية المنعطف نحو المدينة أنه إذا ظهرت شمس الحق فلا داعي إلى الاسترشاد بالنجوم. وأنه اكتشاف مؤلم حقاً للمغررين أن يعرفوا أن من صفقوا لهم طويلاً وسبحوا بحمدهم ما هم إلا مجرد ذيول إلى الوحوش الدولية.
والبقال يعرفهم بسذاجتهم التي تنضح بالشرعية الدولية. “نعيش احتلالاً سلمياً يعشش فينا”
وستتعلمون مني أكثر في مسيركم فالأب في الحياة هو الأب في المسير.
وأضاف البقال: إن أسهل وأرخص قيادة هي الاعتماد على اللاشيء، والفعل الهمجي الذي لا نتيجة له إلا الحفاظ على الامتيازات الخاصة.
رغم أننا شعب واحد يتقاسم الخسائر ذاتها، ويعاني من درجة اليأس نفسها ومشاعرنا متقاربة من احتلال واحد، واختلافنا غير مبرر، لأن هناك دائما محاولة أخيرة إلى الالتقاء نشعر بعدها بالراحة قبل أن نتخلى تماماً.
البقال: “لا توجد أرض تليق بنا إلا فلسطين كلها”
وتعبت الصغيرة لتكرر سؤالها كم تبعد المدينة؟
فقد ظنها البعض قصيرة كالمسافة التي يقطعها كرسيّه الهزاز كقائد جيئة وذهاباً، فأجلسوه عليه، ولم يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بل تأرجح الكرسي في كل الاتجاهات وأخيراً تحطم وبتنا نخسر حتى الأرض التي وُضِع عليها.
جلسوا قليلاً تحت ظل تلك الزيتونة الرّومية جانب الطريق؛ ليحدثهم أكثر، ويتناولون شيئاً من طعام الزوّادة. وفتح الكيس البلاستيكي، وفاحت منه رائحة الزعتر وخبز الطابون المبلل بالزيت، وبعض حبات البندورة مجعدة الوجه.
ما أجمل أن يتربع الإنسان على العشب الرطب، أن يلامس جسده تراب وطنه.
جنى: بسم الله…ما ألذه من طعام قد مللناه.
أدركوا في المخيم أنه كلما علا صوت القيادة قَـلَّ فِعلُها وكُلما كَثُـرت الأغاني فاقت الهزائم كُلَّ تصور، وبقدر ما يرتفع صوت الزعيم في الأرجاء مناشداً متوسلاً؛ يندفن الشعب في تراب الفقر والمرض والحرمان.
وجنى تتعجب من ذلك، فالحقيقة تتضح بجلاء من أسوار المدينة العتيقة ولكن هؤلاء تبرق الحقيقة وترعد أمامهم في المدينة، ويرونها بأعينهم، ألم تؤدبهم ضمائرهم نحوها، أم ينتظرون الحياة حينما تدور عليهم.
ويسارع البقال في التعليق على رأي جنى “فتلك المدينة المطلة علينا يا طفلتي ميزان الله في الأرض، يوزن بها صلاح مسير القيادة أو فسادها.”
التحرير يا أبنائي، طريقٌ مقدس لا نسير فيه فُرادى، ولا أحد فينا يقبل لنفسه إلا أن يكون خطوة فيه لا عقبة مقلقة. فقضيتنا حلّ عليها الصمت والظلام زمناً طويلاً مثل كنز ضاع مفتاحه بين تناحرات عربية واختلافات وطنية.
وتابع وهو يتكئ على الشجرة ويتذكر مقولة لأبيه -رحمه الله- عندما همس في أيامه الأخيرة قائلاً: “إذا كانوا لا يخجلون من هوانهم، فلا تخجل أنت من ثباتك مهما طال. فالثبات سنة جبال وأشجار زيتون المدينة، والثبات يبقي قدميك في موقع متقدم من حقوقك.
ويبقى البقال أكثرهم التصاقاً بالمخيم فحديثه عنه يأتي دائماً مجبولاً بالهموم، وكأنه أكثرهم ملامسة لمشاعرهم، كيف لا وهو البائع لقوتهم القليل، العارف بقدراتهم وحاجاتهم
فقد كانوا في مقهى المخيم يتابعون الأخبار المزيفة من الجرائد، وكل صفحة يطوونها منها كأنها جزء من حطام قضيتهم، وإبداع تجار الخردة في لملمة بقاياها.
وتواجد الصغار قبل الكبار في زقاق المخيم أو مقاهيه علّمهم أن كرامة الأنسان هي قيمة الإنسان. فلا كرامة ولا قيمة دون حقوقهم ووطنهم، لا كرامة لهم وهم يتوسلون كل شيء.
قال الحاج عبد العزيز يوماً، -وهو من مقاتلي الثورة والذي يعرفانه- وكان يحمل فنجان قهوته مرتعشاً: عندما تكون وطنياً بحق، لن تضيع وقتك في محاولة إثبات ذلك! أو كتابته في بيانات وجداريات وخطابات سياسية!
حتى أنهم في أثناء الجدال لتبرير مخازيهم الوطنية جعلوا ألسنتهم تخون ما تقرره عقولهم، وتشعر به قلوبهم، فكان حرصهم على امتيازاتهم أكبر من حرصهم على مبادئهم، والغريب-أضاف البقال- أن أولئك كانوا قادة.
حسناً!
بدأت أفهم ارتباط الماضي بالحاضر، وكوني شاباً إلا أنني أصبحت أدرك معاني الكلمات، أصبحت أكبر من بداية مسيرنا بالطريق إلى الآن بسنوات.
يقولون يا ولدي أنهم يقودوننا نحو الطريق كما يدعون ونحن لم نشهد سقوط الأندلس ولا هم، ولكنهم ما زالوا يشهدون سقوط العراق وسوريا وأفغانستان أمام أعينهم، فهل سيتعظون؟
وتابع الأب متألماً، يبدو أنهم يعيشون حالة خطابية استعراضية شعبية يمليها عليهم حجم الإخفاقات التي لم يجدوا لها حلاً، عاطفة وطنية مهزوزة، قد تثير غباراً ولكنها لا تحرك حجراً، فذكرى سقوط كل دولة مما ذكرت، هي ذكرى لسقوطنا كل يوم.
هل تعني أننا نعيش في زمان السيء والأسوأ؛ لنتعرف جيداً على النقي الشريف؟
هي كذلك، فلا تسألوا عن السيء الذي سرّب العقارات مثلاً، بل اسألوا عن الأسوأ الذي سرب الوطن.
والله يا حج -قال البقال- تبقى مشاعر الأنقياء المكبوتة التي لن تموت، إنها في سبات مؤقت على قيد الحياة، وستنفجر لاحقاً بطريقة باسلة. ومن لا يلبي نداء الله لدينه منا، فلن يلبي نداء وطن أو قضية.
قاطعهم الأب بعبارة اختزلت الكثير: إنّ الإنســان لا يَــرث الكرامــة ولا المهانــة، بـل يصـنعـهما بنفسـه.
لقد قلت لي يا أبي إن الأيام كفيلة بكل شيء، وها هي تمضي كأنها تكرار لواقعنا المؤلم
أليس كذلك يا أحمد؟
فيجيبها الأب مستبقاً ردَّ أحمد: نحن في سباق الأيام يا أبنائي نعيش مع خليط مُقلقٍ من البشر، تصادفنا عقول نيّرة ناقدة، تُـقارِن بأصالة الإيمان، وتحسم خيارها. وعقول أرهقها الباطل، وطُمِس فيها ضياء التمييز، بعشرتهم جميعاً، ومحاورتهم؛ تعلّمت وتخطيت مرحـلة الصـراع الداخلي، وانتهـت معاركي الفكريــة. حسمت توجهاتي منتصراً لعقيدتي. فقد أسّسـت بنائي بكم، وأثمــر طفلة أعشق تربيتها، وابناً تزداد خُـضرة مطلعه كل يوم.
يبدو أن تكرار الأيام وندرة المواقف جعل الجميع يلملم أسلحة الحوار والنقاش والإقناع، ويعيشون معاً بعقيدتهم، وأفكارهم المشتركة يسيرون فقط لإرضاء من يستحق منهم نيل رضاه، خالقٌ له عائدون بما قدموا.
نحن الآن-أضاف البقال- في سباق مع الأيام، في مرحلـة انتصار لأرواحنا، وسموها، ونقائها. نُـشيّـد جدران التقوى أمام عواصف المعاصي، ونرمم سقف الآمال رغم قسوة الحياة.
في المخيم -خاطب الأب الجميع-لا يهمهم في مرحلة ما أو في يوم ما من انتصر فكرياً على الآخر، ولا يهمهم ميزان الربح أو الخسارة في المال، ما يهمهم ميزان الحياة وجلفها وشظفها مقابل الآخرة، والأهم من سيبقى منهم في المخيم على قيد التحمل.
ولفت نظر جنى بعض غيوم الضباب التي تغطي جبل المدينة وعندما بزغت الشمس تلاشت، وكأنها لم تكن. لأنها لا تعلم أنّ الحياة شبيهة بتلك الصورة الضبابية وكلُّ شيء فيها واضح، فالعمى واضح، والخيانة أوضح، والبطولة ساطعة، فضباب القيادات الوهمية يتكشّـف دائماً كلما اشتدت حرارة شمس الحقيقة.
وعلى رصيف البطولة دائماً هناك يجلس فقراؤها، لازمتهم خيبات الأمل كثيراً، لأنهم اشتروا الوهم لبقائهم أسياداً في لحظة ضبابية.
قال لها البقال متحسراً: لقد مات فيهم شيء ما يصعب وصفه. أو حتى إحياؤه!
الأب: لقد ركبوا مركباً فيه من الثقوب الكفيلة بإغراقه، وقادوا دفته نحو شاطئ مجهول، لقد تعايشوا مع الصراع وتلك الثقوب التي تتسع يوماً بعد يوم، ولكنهم لم يفكروا يوماً بغلقها أو حتى التخلي عن مركبهم.
ويراها أحمد قيادة تملك مرساة دون قارب.
والبقال يعرفهم جيداً، فقد قاوموا بغضب ساعاتٍ من نهار، ولم يحملوا حجراً. غضبوا كمن يغضب على فقدان قرشٍ ضائع، أو كمن يغضب على آخر آذاه
جنى: أبي انظر، من هذا الأشيب الجالس في الطريق؟
يبدو رجلاً أتعبه المسير، وجلس يأخذ قسطاً من الراحة في ظل زيتونة الجبل. قال أحمد.
رحبوا به جميعاً متمنين له الصحة والعافية
هل أنت تعب يا عم؟ هل نساعدك بشيء؟
لقد أضعت جزءاً من قوّتي لمواصلة المسير نحو المدينة لأوصل رسالتي.
أية رسالة يا عم؟ قالها معاً
اعتدل في جلسته واتكأ على الجذر البارز من التراب مشيراً بيده إلى البقعة المحروثة من التراب الخالية من الأشواك كأنه يشير إليهم بالجلوس فيها.
يا أبنائي، تأكدوا أن صاحب الرسالة أقوى بكثير من صاحب المصلحة فصاحب الرسالة يلمعُ معدنه الصافي تحت وطأة المحن، ويخلّد التاريخ أفعاله لا أقواله. أما صاحب المصلحة ينتهي هو بانتهاء ما كسبه من مصلحته.
أحمد: من هؤلاء؟
هؤلاء من نحتتهم السياسة لأنهم مكثوا تحتها زمناً طويلاً؛ كقطرة ماء تسقط من فوق جبل تحفر صخرةً مع الزمن وحولتهم إلى عبيد بقالبٍ واحد، وأحيانا منهم من تحول إلى بهيمة. فخلف شخصياتهم إنسان آخر لم نكن نعرفه.
البقال: الحديث عن الشجاعة مغلف بالمصلحة بعيداً عن ساحة المعركة، ليس كالحديث من رَحِمِ المواقف التي تلدُ الشجاعة.
يا أبنائي -قال الأب-: المنطق السلبي ضعيف دائماً، يستحيل أن يظلَّ صامداً على المدى البعيد، والمصلحة السياسية البعيدة عن العقيدة خراب قادم.
الشيخ: إن الثقة بالله وحدها خطوة في طريق النصر، أو حتى الشعور بالنصر الذي يفتقده الكثيرون. البعيدون عن الدين بعيدون عن الوطن لأنّ الوطن دين ودنيا.
البقال: الأكثر رُعباً من العمى أن يدعي البعض أنه الوحيد الذي يرى ونحن في المدينة نسقي ظلّ الشجرة علّها تنمو، ولا نكتفي بفداء الشجرة. فالعيون المتفتحة ترى الشجرة وظلّها.
لقد علمت الحياة الشيخ أن منطق القوة الكاذبة، سيفعل المهزوم ومهزوز الثقة أي شيء للحفاظ على مكاسبه، لو اضطر أن يصبح وطنياً، فهناك مسافة نضالية بين المقاومة وبين السياسة اللاهية، لا يلتقيان، فعندما يخلو المسير من القوة يصبح طويلاً جداً كطريق نسلكه أول مرة.
وحسب معرفة أحمد النامية بالمسير فالطريق لا يتغير بل يكشف، وكي نعطي الطريق حقه علينا أن نمتلك أولا ما نعطيه.
ويصر الأب أن الاقتراب من النصر صناعة لا تحدث ولا تنتج ما لم نتخذ خطوات ثابتة أصيلة وطنياً للوصول إليها.
والبقال مقتنع أن الإبداع الوطني المتكامل، الخطة الشعبية الداعمة، الدفاع على طريق الانتصار، وليس الهجوم بالاحتجاج، العدل الوطني الذي يداوي كل ألم حاصل أو متوقع.
والشيخ يواصل رصف الطريق بكلامه بأن كل ما نريده، كل ما تأمله أذهاننا من آمال نعتز بها يعتمد على خوضكم شعبياً للمخاطرة. المقاومة، والوحدة عليها.
ليضيف لهم البقال أنّ كل نصر شريف على الأرض يحتوي على مخاطرة.
الطفلة: كل شيء!!
الأب: لا أنصاف أرض، ولا أنصاف مقاومة، ولا أنصاف تعاون مع المحتل.
الشيخ: لا شيء في هذا العالم يقف مع الشرفاء… المقاومين.. أصحاب الحق
الأب: لذا ينبغي لنا شعبياً أن نخاطر بامتيازاتنا وبيوتنا وأعمارنا، ونعمل طوال الوقت. إن أردنا وطناً..
أحمد: وهل المخاطرة شيء مطلوب دون حساب؟
البقال: أهل العزة والثبات أينما كانوا، يخاطرون كي تنمو عزّتنا ويظللنا شرفنا وتسندنا مقاومتنا ويكبر أبطالنا وتنمو مقاومتكم بكم… بعزيمتكم وإعدادكم…
الأب: كي تظل فلسطيننا شابة رافعة الهامة، كي يكون لديها أمل بكم بالتحرير.
الشيخ: بالشباب الثائر لأنهم ليسوا بالشيء السهل، وأعمالهم تغذيها دماء العمل الصعب. ولو كانت غير ذلك لم تكن لتصبح مقاومة.
الأب: أما هؤلاء.. الجالسين على رصيف الامتيازات…تُـرى بأي شيء يخاطرون؟
الشيخ: إنهم دائماً معرضون لفقدان شيء ما يكبل عزتهم ورتبهم ورواتبهم ويهز مقاعدهم وامتيازات سُحبت من دماء المحرومين والمقهورين ودواخلهم تذوب بين الماضي الأغر، والحاضر الأعر
البقال: أولئك المتلاعبون، المتلونون…
أحمد: فعلاً، فسلام مع قاتلي كمرض عضال يجتاحني ليل نهار، فالمرض ليس خطوة شجاعة نحو الشفاء، وإنما قفزة جريئة نحو أبعد حد في هاوية الموت.
جنى متعجبة ويعلو وجهها خوف ممزوج باستغراب: نحن بخوف، وأننا لسنا في مأمن!
الشيخ: لن نكون في مأمن ما دمنا نصرخ، ونصرخ، الصرخات بالصوت المجرد… وتزعج السماء بأزيز رصاصها..
الشيخ: قُلنا.. لا تقاوموا بالرقص، فنحن لسنا في ملهى ليلي والطعام ليس مقاومة والفواكه ليست نضالاً.
أحمد: والمسخن ليس سلاحاً.
البقال: والقاعة المغلقة ليست الميدان.
الشيخ: لقد أصبحت مشاعرنا الوطنية مؤقتة للمناسبات والأحداث، بعد أن كانت فعلاً مقاوماً.
الأب: الفاشل في تمكين مبادئه وصياغتها أفعالاً تهز شوك الجبل، سيبقى مرتجفاً مثل ورق الخريف.
الشيخ: ما دمت تمشي مستقيماً فلا تبالي بالمسيرات المائلة. فأنت في الطريق الصحيح طالما تقاوم، سواء حققت ما تريد أم تسعى لذلك ولم تبدل مسيرك.
قال البقال: أتذكر مثلا إنجليزياً ينطبق حاله على واقعنا” إن الشفق الذي يرسل الدجاج لينام، يخرج الثعالب لتسعى”
جنى: ما معنى ذلك؟
الأب: وضعونا في حظيرة دجاج السلام، وأوهمونا بطعام وراحة ومال، ولكنهم أطلقوا ثعالبهم لتنهش ما بقي من أرضنا.
ولأنهم خجلوا من الرفض مرة، أصبح عليهم الاحتماء بقنّ الدجاج كل مرة. ومن لم يكن جزءاً من صوت المعركة لا يحق له أن ينتقدها.
البقال: الوسيلة الوحيدة لاتخاذ القرار الصحيح، هي الاعتراف بالقرار الخطأ أولاً. والمؤمن بالله وعدالة قضيته ضميره يسبق قراراته.
الأب: وأتساءل دوماً، ما الذي تبقى فعله بتلك القطع المتكسرة على الأرض من بقايا الوطنية؟
وبعد برهة صمت متأملة في الوجوه سمعت جنى شيئاً قادماً من بين الأشجار أثار فضولها، ورفعت رأسها من بينهم باحثة مستطلعة، وبدأت علامات سرور على شفتيها
ما أجمل تلك الترانيم القادمة من بين الأشجار.
الأب: يبدو أنه راعي ماشية يغني…
جنى: ما أجملها من ترانيم ومشاعر باكية
البقال: كل من في وطني بكى يوماً ما يا ابنتي
أحمد: ولكنها في كلماتها عزيزة فوق البكاء. البكاء هو البكاء، قد نبكي فرحاً أو حزناً. أو نبكي شوقاً لماضٍ كنا في أعزاء.
الأب: الحنين يا أبنائي دفتر ذكريات كتبناه بالأمس لنعيش معه، ونقرأه في المستقبل.
أحمد: أراك يا أبي كلما اقتربنا من المدينة تظهر عليك علامات التشاؤم؟ أم هي قلق اللقاء؟ أم خوف الدخول فيها؟
لست متشائماً، جئنا من أرض مصطنعة، مركبة كأحجار اللعب، تتراجع هيبتها يوماً بعد يوم في نفوس مؤسسيها، وتفسد مؤسساتها من مشغليها، وتضعف قوانينها من واضعيها.
الشيخ: حاصرت رسالةَ مساجدها، وأبعدت دُعاتها، فبذلك ستنهار المبادئ الضابطة للسلوك الاجتماعي، الذي هو عماد كل مقاومة مؤثرة.
البقال: وفيها تسيطر الواسطة والمحسوبية، ويصبح ميزان العدل فنجان القهوة المر الأسود، مقابل جثة قتيل دامية، فتنهار المؤسسات ويتحكم فيها زعران الراية، وحمير الزعيم التي تحمل أسفارها.
قال الأب: بعد ذلك لن ننتظر كثيراً لنشاهد الأسرة ودورها الهام ذاهب بخطوات متسارعة إلى التفكك والضياع، ولكنّ أجراس الخطر تهتز بأفعال المارقين والمنحلين في كل شارع وزقاق.
الشيخ: انظروا هناك… وأشار بيده دون أن يلتفت لجهة ما.. إلى هؤلاء المتناحرين، حيث يتحول تدريجياً أخوة الدين والوطن، إلى عصبيات قبلية دامية، لا تراعي المحرم ولا المنكر.
جيل يتخبط بين الموضة والماضي، فقد نهشتهم قلّة الأخلاق. وأجساد عارية من الحياء، يغطيها حجاب اصطناعي خجول.
قال البقال: أصبحت حياتنا كهوفاً مظلمة وحزينة، تتجنب ذكرها الأخبار، ولا تنشر صورها الصحف، ولا يتناقش بها المارون أمام عيوننا الذابلة من وطن يتلاشى ويخنقنا بضيق حواجزه، حتى الجارة على الجارة لا يمكن أن تثرثر بمصائبنا من على شرفة البلكونة رغم قربهن، هي تراكمات وطنية وأخلاقية حزينة، تغطيها ابتسامة صغيرة لطفل فقط.
جنى: صدقت يا أحمد، أرى أبي بمشاعر تختلف كلما اقتربنا…
الأب: الأشياء الحزينة لا يمكن قولها ولا الانتباه، أو الإشارة إليها، لكنها مشاعر حزينة بذاتها من واقع مُر، حزينة للغاية، ومن الصعب قول شيء آخر غير أنها أشياء حزينة فقط.
إنه اكتشاف مؤلم للمغرر بهم وطنياً أو دينياً أن يدركوا متأخرين أن رجال دين السلطان، والقادة السياسيين، ما هم إلا مجرد بشر جمعتهم مصلحة مؤقتة.
إذا ما هي الحقيقة النهائية التي نسير من أجلها؟ سأل احمد باستغراب.
الأب: الحقيقة، بكل صوتي ووجداني أقولها، لا توجد ثورة وطنية مثالية، كما لا يوجد قائد مثالي، ولا داعية مثالي، طالما غابت قيمة الدين وشرائعه في نفوسهم، وتصدر كلامهم ثعلب الماكرين، وطالما أغلقت كتب الحق والدعوة الحقيقية، وغابت أهازيج النخوة والجهاد، وفتحت المراقص والأمسيات والسهرات.
ولكن الحقيقة القادمة كالميلاد، فما زالت تصدح في أذني آية الوصول للمدينة: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)
انتهت