25 عاماً على إغراق الحرم الإبراهيميّ بالدم!

عندما كنتُ في المرحلةِ الابتدائية، في مدرسة تابعة للاونروا “وكالة اللاجئين” في أحد مخيمات االشتات..
كان الوطن بالنسبة لنا حروفاً متناسقةً جداً،يرسمها الشبّان على الحيطان بصورٍ بهيّة، وكان أجدادنا في ذات الوقت يحفرونها في قلوبنا وذاكرتنا كي لا ننسى، كانت أعمارنا تُنسج من هَواه؛ فنعدّها ونحسبها معه، نربطها بأي حادثة تخصه، نذرها لأجله ونربط ذكرياتنا بضيقٍ يصيبه أو فرج يعمّه..
هو فرحتنا وحزننا المتدفق إلينا دون أن نملك القدرة على إيقافه..
وفي كل مرحلةٍ عمريّة كان لابدّ من حدثٍ يَضخ دمَ الحُبّ والاحتياج؛ لأن نكون في أرضنا المسروقة لا في المنفى كالغريق المتعلق بقشة؛ على الأقل لنتقاسم أمانة الذودِ عنه مع مَن يَفعلون ذلك بدمهم..
فإن لم نستطع فبالصلاة من أجلهِ وبالحنين إليه! كانت الألحانُ المنبعثة في قصائدِ من يُلْهمُ لَهم الوطن؛ طربَنا الوحيد..
وموسيقانا العذبة الشجية؛ أيام (يا أطفال الحجارة ،نزلوا صبايا وشبان يتحدوا للدورية) هكذا تربّينا على حكاية واحدة أصيلة عنوانها “الوطن بوصلتنا الأولى وخيارنا قبل أيّ شيء” إنّ ذاكرة الطفل والتي يقولون أنها مؤقتة، عند الطفل اللاجئ تتسع للكثير، لذلك تبقى فتيّة ولا تشيخ عند الأجداد..
لا سيّما فيما يخص التفاصيل المتعلّقة بالوطن..
يوماً ما؛ كان نشيجُ المعلمات أقوى من ضجيج الطلاب..
ونداءاتهن المتتالية بغضب عارم معلنات الحداد والتجمّع لأداء صلاة الغائب..
كان أقوى من الفوضى المنبعثة من طلابِ المرحلة الابتدائية،الذين يصعب تنظيمهم، شهداءُ من مدينة الخليل تم اغتيالهم وهم يؤدّون صلاة الفجر في الحرم الإبراهيمي، سماؤنا حزنت وقتها فبكت معنا، بكينا بكاءً جماعياً وغَشِينا من الحزن ما غشينا، لم يكن آنذاك مواقع تواصل ولا شبكات انترنت ولا محطات اخبار عاجلة تنشر لنا الصور فتُؤَقّت الحزن في نفوسنا، كان رسمُ المشهدِ يعتمدُ على التخيّلِ ورصدِ رَدّات الفعلِ في عيونِ الكبار..
دموعهم..
صراخهم..
استنجادهم بالله في الصلاة والابتهال، لذا يَصعبُ تمزيق صورٍ معبقة بدمِ الشهداء وقد نَسجها الخيال لحادثةٍ مُفجِعة كمجزرة الحرمِ الإبراهيميّ، فكلما كبرنا اتسعت الذاكرة لاحتواء المزيد وضاق القلب حزناً!
لم أكن لأتذكر ٢٥ شباط ومجزرة الحرم الإبراهيمي لولا الست باسمة، فالمشهدُ يتكرّر في كلّ شباط من كلّ عام، لا أذكرُ عن معلّمتي إلا اسمها ولا أعرف عنها شيئاً إلا صوتها الحادّ.. وهروبُنا من الممرّاتِ عندما كنّا نُصادِفها خوفاً منها، كانت تبدو قاسية ولا تعرف حتى الابتسامة العابرة، كنتُ أظنّها بدون قلب، أمّا في هذا اليوم فقد رأيتها شخصاً آخر، ذاب قلبي معها وتدثر من حزنها، وكأنها الوطن والشهداء والدم المقدس كلهم مجتمعون، هكذا تأتي إلى ذاكرتي مع هذا كله!
تدرون! الوطن هو الشيء الوحيد الذي يُعرّي مشاعرَ الإنسانِ الحقيقية.. والشهداءُ هم الأداةُ العظيمة التي لديها القدرة على نزعِ أيّ غشاء مهما كان سميكاً ليكشفَ مدى إنسانيّتنا من عدمها!
لقد كتب الله لي زيارة الحرم الإبراهيمي أكثر من مرة، وهممتُ بتخيّل حادثة الاغتيال وفي كل مرّة كانت ترتد إليّ مشاعر شتّى تعصفُ بي، فحال مسجدنا مؤسفٌ جداً..
لم يكن هذا الدم وهذه المجزرة البشعة كافية لأن تكفّ أيدي القتلة عنه..
فالعدوّ لم يلطخه بالدم والإجرامِ فحسب؛ بل قسّموه وملأوه بالحواجز المتقاربة، حتى أنك تشعر بأن في سجون صغيرة موزعة على أمزجتهم، مزودة بكاميرات المراقبة والبوابات الالكترونية! رحم الله شهداء الحرم الابراهيمي وطهر الله أرضنا وكل مقدساتتا من دنس المغتصبين